جاد الغيث |
(عُمير) طفل ذكي في الصف الرابع، عيناه العسليتان الواسعتان تشدك إليه بسحر غريب، رسومه مدهشة بألوانها وأفكارها، أما دفتره فهو مميز وغريب، كلماته التي يكتبها بإتقان يتركها بدون تنقيط، عشرات المرات قلت له: “نقط الكلمات يا عمير”
إلا أنه كان يجيب بابتسامة عريضة بريئة: “حاضر أستاذ …تكرم”.
ويسرع في وضع النقاط فوق الحروف لتكتمل كلماته وتغدو مقروءة بشكل صحيح “شهيد صغير، برميل متفجر، قذيفة، قنابل، صواريخ، رصاص..”
كلمات (عُمير) على دفتره تظهر بأجمل حلة، لكنها تبقى موجعة ودامية، ولو أن تلك الكلمات انفجرت لمزقت صفحات الدفتر كما تمزق الناس لأشلاء على أرض الواقع.
(عُمير) يكتب مفردات مأساوية يعيشها الناس في حلب (الشرقية) كل يوم وينتج عنها شهداء وجرحى ودمار.
كان صوت المروحية يهدر في السماء عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، ومن بعيد وصل إلينا صفير انفجار برميل متفجر، ودخان كثيف في السماء ظهر قريبًا من المدرسة.
المروحية مازالت تُحلق في السماء، وفي مثل هذه الحالة يتوقع سقوط برميل آخر، أصعب شيء في تلك الدقائق أنها تمر ببطء وذعر، ونحن المعلمين في المدرسة ينتابنا قلق شديد لأننا ندرك أن أهالي التلاميذ في حالة خوف وتوتر، فهم لا يعلمون فيما إذا كان أولادهم قد غادروا المدرسة وهم في الطريق الآن، وربما سقط البرميل المتفجر قريباً منهم.
ولكن الأولاد لم يغادروا المدرسة، هم في الطابق تحت الأرضي الذي يضم قاعة كبيرة مخصصة للرياضة تصبح ملاذًا آمنًا للجميع. بعض التلاميذ يبكي والبعض الآخر مصفر الوجه يلوذ بصمت مطبق، وبعضهم يقرؤون ما يحفظونه من آيات قرآنية.
تكتظ قاعة الرياضة بالتلاميذ مع المعلمين ريثما تغادر المروحية الأسدية اللعينة سماء حلب الشرقية.
كنت أعتقد أن ذلك اليوم (الأربعاء 13 نيسان 2016 ) الذي أصبح لاحقاً ذكرى موجعة لا يمكن نسيانها، سيمر على خير كما مرت أيام كثيرة مخيفة على خير، وكنت أتوقع أن التلاميذ سوف يحتجزون في قبو المدرسة ريثما تغادر الطائرة الحربية الأجواء، لكن هذه المرة كانت درجة الرعب أقوى بكثير مما يمكن احتماله، هوى البرميل المتفجر قريباً جداً منا، تطايرت الشظايا واخترقت النوافذ ، حطمت بعض الأبواب، انتشر الغبار حولنا ووصل إلينا، قطع من زجاج النوافذ جرحت عددًا من التلاميذ، ساعة من الوقت مرت كأنها سنة كاملة، استسلم الأولاد لبكاء حار، ضجيج في الخارج وأصوات مذعورة تمتزج مع صوت سيارات الإسعاف التي تجعل المشهد أكثر بؤسًا ووجعًا.
كل هذه الصور الكئيبة المخيفة الموجعة، مرت بسلام، خرج الجميع سالمًا، جروح خفيفة لدى بعض التلاميذ، وركام تجمع أمام باب المدرسة، ليس من الصعب تجاوزه، السماء صافية والشمس تنشر الدفء، والساعة الآن الواحدة والربع ظهراً، الجميع تنفس بارتياح كأنه غادر المعتقل، “الحمد لله على كل حال” هكذا كانت القلوب تلهج، حتى أن عدد الجرحى في مكان سقوط البرميل لم يتجاوز الخمسة، ولم يكن هناك شهداء، كل ما في الأمر الذي سبب لي وجعًا لن أنساه ما حييت، أنني سمحت لعُمير بالذهاب إلى البيت، فمنزله كان قريبًا جدًا من المدرسة، كان يستطيع أن يركض بسرعة ليطمئن أهله عليه، ويصل قبل سقوط البرميل المتفجر.
لكن (عُمير) لم يستطع أن يركض حينها، لأن شظية اخترقت قلبه الصغير فسقط أرضًا وراح ينزف حتى تحققت أمنيته التي كان يكتبها على دفتره العجيب، (شهيد صغير).
كان (عُمير) يكتب كلماته بلا نقط، والآن وضع نقط دمه على حروف موته، بل إن دماء أقران عُمير من الأطفال ماتزال تنهال في ريف حلب الغربي والجنوبي، وفي ريف إدلب الجنوبي والشرقي جرَّاء سقوط البراميل المتفجرة والصواريخ شديدة الانفجار من طائرات النظام الحاقد وروسيا، ولا يُعرف منذ تسع سنوات إلى الآن متى تتوقف دماء السوريين!