نور القدور |
أمي ، حياة ، أحمد ، محم.. لم تُكملْ حرفَ الميم والدال، تجاهلتْ باقي الأسماء تماماً كما يصرف طالبُ المدرسة سَمعه عن صوت المعلم بعد معرفة درجة امتحانه، تَذكرتْ أن عدد أفراد أسرتِها اختلف هذا العام، هكذا اعتادت ريم أن تَعُدَّ الأسماء وهي تحضر أطباق المائدة في رمضان ، لكن شهر الخير هذا العام حلّ بوجهٍ جديد، فهذا طبقُ مسافر ٍخالٍ، وذاك طبقُ مجاهدٍ، وهذا طبقُ شهيد، تلكأت وتمتمت بحروف غير مفهومة لتصرف نظرَ أمِها عمّا قالته، يالَغباء هل تظنينَ غاب عن بالها كل الذي تفكرين؟ تحولَ مطبخنا هذا العام إلى زاويةٍ صغيرة بطرف هيكل من القماش المهترئ المدعو بـ “خيمة ” ومجموعة من قدورٍ اسودت أطرافها بسبب موقدِ النار، كان واسعًا ومليئًا بالرفوف مشمسًا يَعمه الضجيج ، أقصدُ مطبخَ منزلنا قبل أن يتحول إلى ركام بعد قصف نظام الأسد له.
تلطختْ حياتنا بالغبارِ منذ ذاك الوقت فانتقلنا للعيش في خيمة باتت حُلمَ الكثيرين، هل يعقل أن نكون محظوظين بمجرد امتلاكنا لخيمة ؟ لا علينا ركزي في تحضير الطعام الآن اقتربَ موعد أذان المغرب، ولكن أحدًا لم يسأل ماذا سنعدُ اليوم على الإفطار؟ هذا السؤال بالذاتْ كان يشغلنا لساعاتْ عندما يبدأ أبي بالسؤال وتَكثر الاقتراحات والاعتراضات فتقاطع أمي الحديث وتقترح التصويت ويُجمِع كل من في البيت كالمعتاد على الطعام الدَسِم، لا تغيب عن بالي أصوات الأكياس التي تسبق خطى أبي عند الظهيرة محملاً بكلّ ما لذ وطاب ،”طيّبَ الله مضجعك يا أبي” ، تمتعضُ أمي من إسرافهِ بالمشتريات وتقول كلمتها الشهيرة: “خبِّ قرشك الأبيض ليومك الأسود يا رجل” وحل اليوم الأسود يا أمي.
حان موعد الإفطار بتوقيت الفقر والنزوح، حلَّ شهر اللمة بزمن الغياب، تغيرت طقوس الإفطار بل انعدمت، أين كأس التوت الطازج الذي كنا نعده من ثمر شجرتنا؟ أين مشروب عرق السوس الخاص بأختي التي تزوجت وهاجرت إلى أوربا؟ أين اللبن المروب الخاص بمحمد؟ محمد! استشهد في معركة لاستعادة السيطرة على مدينة معرة النعمان، التي سقطت بعد موته بأيام كأنها عاهدته الوفاء، يالله كم ستختنق تلك المائدة الخالية إلا من الذكريات، يجلس أبي في الصدر وأمي على يساره ، أنا على اليمين وبقربي أحمد، أما حياة فتتنقل لتجلس بجانب قدر الطعام دائمًا وليس لرغد ومحمد مكان مخصص، هكذا كُنا نجتمع حول مائدة الإفطار منتظرين أذان المغرب بفارغِ الصبر، بقي خمس دقائق، بقيت دقيقتان ، بقيت ثانية.. فيقاطع أبي حديثنا بالدعاء ”ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله “.
لن يروي ماء العالم ظمأ الشوق لمن باتت أماكنهم خالية هذا العام يا أبي، لن تبتل عروق أرواحنا بنبض الحياة قط، سَيطول صيامنا للأبد دونّما إفطار، شوقًا لمن سكن الديار، للزهور التي كانت تزين الشرفة وأتقصد عدم سقايتها إلا بعد أذان المغرب ظنًا مني أنها تصوم معنا، تغيّرت طقوس القهوة والشاي وكعك رمضان الذي كان يفوح من أسواق المعرة فيُدخل لقلبي فرحًا يشبه ذاك الحنين الذي يتغنى المغتربون به دومًا عندما يتذكرون رائحة الياسمين الدمشقي، حنيني لكل من غابوا يستعصي على الحروف، أبى شوقي تجسيد الذكريات بمجرد كلمات، هل يعقل أن يجلب لي شهر الخير شعور اليُتم والفقد والغربة والفقر في آن واحد؟.
قاطعت أمي أفكاري وقالت صدَقَ من قال “رمضان كريم يا ابنتي” لقد امتلأت مائدتنا بأطباق الطعام، فبرَغم فقر مَن حولنا مِن النازحين إلا أنهم شاركونا طعامهم البسيط، صحيح أن الظروف تغيرت ولكن معدنَ الناس لم يتغير، شَعرت بألمي الذي واريته عنها وضمدت شرودي بقولها: اسقِ ظمأ شوقك بالدعاء لمن غابوا والرحمة لمن ماتوا والغَلبَة لمن ظَلموا .