منيرة حمزة |
حضّرت (الحاجة أم علي ياسين) من مدينة أريحا، لوازم الكعك المالح أو “كعك العيد” الذي تتفرد به مدينتي إدلب وحلب عن باقي المدن، ويعتبر من طقوس الأعياد المشهورة في الشمال السوري، ولا يكاد يخلو بيت منه في مدينة إدلب.
مزجت الطحين بالتوابل الشهية، كجوزة الطيب واليانسون والشمرة وحبة البركة وزيت الزيتون، لتصنع كعك العيد بنكهته المميزة والفريدة، وملأت الصواني بالحلويات بمساعدة أولادها وبناتها التي تجمعهم ككل عيد لمساعدتها، وما إن وضعت الحلويات في الفرن حتى فاحت الرائحة الزكية، ورسمت بسمة خجولة على وجه (أم علي) التي قتلت بسمتها بدموع مالحة عندما تذكرت ابنها الشهيد “علي “، فازدادت ملوحة الكعك الذي بات يُعجن بدموع الأمهات الثكالى حزناً على أولادهنَّ.
فما إن تغيب ذكرى الراحلين حتى تعود مسرعة تستحضر اللحظات الماضية، فلهم في كل ركن ذكرى، وفي كل مناسبة أو فرحة غصة، وهذا ما جعل أم علي تجود بدمعها حزناً على ابنها الذي قضى نحبه في إحدى المعارك منذ سنين.
ولكن سرعان ما كفكفت دموعها وابتلعت غصتها أمام أولاده الصغار الذين يتجمعون حول جدتهم، وينتظرون بفارغ الصبر أن يأكلوا من كعك العيد، ويفرحوا كباقي الأطفال “فلا ذنب للصغار بهذه الحرب، ولن نسرق فرحة العيد منهم” بهذه الكلمات تمتمت (أم علي) وأعادت البسمة ثانية إلى محياها.
فكم أم وزوجة وابنة، كأم علي ستبكي هذا العيد وتخفي دموعها، وتتظاهر بالفرح أمام الجميع حتى لا تنسيهم بهجة العيد وتعظيم شعائره كما أمرنا الله! وكم علينا أن نكون أقوياء في كل مرة حتى نستمر بالحياة مع من بقي لنا من أحبائنا!
وماهي إلا ساعات من العمل الجماعي المنزلي حتى انتهت ورشة عمل الحلويات وفاحت رائحة العيد من نوافذ المنزل لتدعو جيران الحي وتقدم لهم الكعك اللذيذ.
وكان لخبر” الهدنة” قبيل العيد بأيام التي من المفترض أن تقضي بوقف إطلاق النار في الشمال السوري، أمرًا جعل المدنيين يتنفسون الصعداء بعد عدة أشهر من القصف المتواصل، حيث جاءت لتريح الناس من القصف المستمر والموت اليومي ويُهيئوا أنفسهم لاستقبال العيد، فاستبشر الأهالي خيراً بقدوم عيد لا قصف فيه ولا موت كما تعودوا من قبل.
إلا أن هذه الفرحة لم تدم طويلاً، بعدما خرق النظام الهدنة وشن غارات جوية في عدة مناطق متفرقة من المدينة، ونفذ عدة اقتحامات وسيطر على قرى في ريف حماة الشمالي بعد اتباعه لسياسة الأرض المحروقة.
وهذ الأمر ليس غريبًا على نظام الأسد المُجرم، فهو لا يرعى عهدًا ولا ذمة، ولا يُؤمن له جانب، فبعد أن بدأ بعض النازحين بالعودة إلى مدنهم المنكوبة وفرحوا أنهم سيقضون العيد ولو على أنقاض منازلهم التي هي أرحم من ويلات النزوح عادت قنابل الأسد لترمي حقدها من جديد على ذات المناطق.
ومع ذلك مازال لسان حال الأهالي يقول: “بهدنة أو دون هدنة، ستصدح المآذن بتكبيرات العيد وتعلو بقولها (الله أكبر) فوق صوت الطائرات.”
ستفوح رائحة القهوة المرة من نوافذ المنازل المُتعبة، وسنصنع الحلويات كما نصنعها كل عيد، ونجهز الألعاب والملاهي في ساحات المدينة، وستعلو ضحكات الأطفال وتغطي على كل الحقد الذي ترميه طائرات النظام السوري وروسيا.
بهدنة أو دون هدنة، لم تعد تفرق كثيراً على شعب أثبت للعالم أجمع صلابته وقوة عزيمته وإصراره على الحياة الحرة الكريمة.