امتد لهيب الأزمة السورية طويلة الأمد إلى جميع دول المنطقة، وتعتبر تركيا واحدة من أكثر البلدان التي تضررت جراء انتشار واستشراء ذلك اللهيب. لقد أثرت الأزمة السورية سلبًا على عملية السلام الداخلي وعلى الديناميات الاجتماعية وجملة من القضايا العرقية والدينية داخل المجتمع التركي، فضلًا عن أزمة اللاجئين، الذين تجاوزت أعدادهم الـ1.7 مليون لاجئ.
وتشكل مشاكل من قبيل المشكلة الكردية، ومشكلة العلويين، والتمدد الشيعي، وارتفاع نسبة القوميين في الشارع التركي، والتكاليف الباهظة لاستقبال اللاجئين السوريين التي وصلت إلى مليارات الدولارات، مشاكل خطيرة بالنسبة لتركيا. في الواقع، إن هذه المشاكل والسياسات المتعلقة بها، انعكست على صناديق الاقتراع خلال الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي أضعفت حزب العدالة والتنمية، وأظهرت حدوث ارتفاع في نسبة القوميين الأتراك والأكراد.
هل ستدخل تركيا في الحرب؟
إن تركيا، تواجه في هذه الآونة مشاكل خطيرة للغاية، في حين تشهد البلاد نقاشات ساخنة، تتمحور حول الدخول في صراعٍ حامي الوطيس، وتنفيذ عمليات عسكرية خلف الحدود، وإرسال قوات عسكرية إلى سوريا. وأعتقد أن الأمور قد تعدت النقاشات في تلك المواضيع، سيما أن الدافع الرئيسي الذي حرك تلك النقاشات، كان سيطرة مسلحي تنظيم “حزب الاتحاد الديمقراطي” (الكردي)، الذي يعرف اختصارًا باسم “بي يي دي”، على مناطق الشمال السوري، والمساعي التي يبذلها مسلحو التنظيم من أجل إعلان منطقة مستقلة أو شبه مستقلة، في المناطق التي سيطروا عليها. من جهتها تركيا، ترى بأن خطوة من هذا القبيل، يقدم عليها المسلحون الذين يعتبرون امتدادًا لمنظمة “بي كا كا”، التي حارب الدولة التركية لعدة عقود، ستكون بمثابة خطوة أولى لبناء دولة كردية، وتعتقد تركيا أن الخطوة الثانية، ستكون بانتزاع جزء من أراضيها لصالح تلك الدولة في حال تم إنشاؤها.
لقد عمل تنظيم “بي يي دي”، منذ زمن طويل، على تحقيق مشروعه الذي أطلق عليه اسم “روجافا”، ووفقًا لهذا المشروع، فإن التنظيم يطمح للسيطرة على الأراضي السورية الواقعة على امتداد الحدود مع تركيا، بدءًا من الحدود العراقية التي تقع تحت سيطرة البارزاني وحتى شمال اللاذقية المطلة على البحر المتوسط، وهذا سيقطع بشكل تام أي تواصل جغرافي لتركيا مع العرب والتركمان، أي أن تركيا ستصبح دولة تمتلك حدودًا مع منطقة مستقلة أو ذاتية الحكم، تقع تحت سيطرة منظمتي “بي يي دي” و”بي كا كا” الإرهابيتين، اللتين خاضت معهما حروبًا استمرت لسنوات طويلة.
منطقة حكم ذاتي للأكراد وانفراط العقد السوري
شرع تنظيم “بي يي دي”، الذي عقد تفاهمًا مع مثلث التحالف الأمريكي البريطاني الإسرائيلي، بالتجهيز لمشروعه مع ظهور خطر تنظيم داعش، وعدما بدأ بتلقي الدعم العسكري واللوجستي من التحالف، تمكن من السيطرة على بلدة “تل أبيض” التي كانت تحت سيطرة تنظيم داعش، ووصل المناطق التي تقع تحت سيطرته جغرافيًا، فوحد مناطق “عين العرب” (كوباني) و”الجزيرة” و”تل أبيض”، واضعًا منطقتي بلدة “اعزاز” ومدينة “الرقة” نصب عينيه، وبدأ بتغيير التوازنات المحلية والتركيبة السكانية في تلك المناطق التي وقعت تحت سيطرته، فيما تواردت أنباء تحدثت عن استقدامه للاجئين من أكراد العراق، وإسكانهم في القرى والبلدات التي تم إفراغها من سكانها داخل الحدود السورية، جاء ذلك بالتزامن مع تأكيد العائلات التركمانية والعربية التي لجأت إلى تركيا من “عين العرب” و”تل أبيض” لتلك الأنباء، حيث تحدثت تلك العائلات عن تهجير قصري تعرضت له من قبل مسلحي الـ”بي يي دي”، الذين أرغموا تلك العائلات على ترك منازلها والرحيل نحو تركيا.
وباختصار، فإن مسلحي الـ”بي يي دي”، الذين تسلحوا بالدعم المقدم من قبل التحالف، ارتكبوا أعمالًا يمكن وصفها بالخطيرة، وإذا ما تمكنوا من السيطرة على الجزء الشمالي من سوريا، فسيعني هذا ذهاب البلاد نحو التفكك. وهنا أود الإشارة إلى نقطة هامة وخطيرة، حيث إن تمكن مسلحي الـ”بي يي دي” من السيطرة على تلك المناطق، سيعني أيضًا تمكنهم من تصدير النفط الكردي القادم من أربيل إلى مختلف أنحاء العالم، عبر الشمال السوري والبحر المتوسط.
أردوغان: سنتدخل مهما كانت التكلفة
أكّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن بلاده لن تسمح أبداً بإقامة دولة أو منطقة حكم ذاتي في شمال سوريا، وأنها ستتدخل للحيلولة دون حدوث ذلك مهما كان الثمن، كما تم مناقشة هذه المسألة وتناولها من كافة الجوانب، خلال الاجتماع الأخير لمجلس الأمن القومي، الذي يعتبر أهم مرجعية لصناعة القرار في تركيا، وعقب ذلك، أصدرت التعليمات من أجل التحضير لكافة الاحتمالات، بما في ذلك التدخل في سوريا عسكريًا، ومنذ ذلك الحين، فإن المنطقة الحدودية مع سوريا، تشهد نشاط عسكريًا مكثفًا للغاية.
وقد أعلنت الحكومة التركية بشكل غير رسمي عبر وسائل، أنها ستكون مضطرة للتدخل عسكريًا شمال سوريا، إذا ما تدفقت موجة أخرى من اللاجئين السوريين نحو الأراضي التركية، جراء عبور محتمل لمسلحي الـ”بي يي دي” إلى الضفة الغربية لنهر الفرات، بهدف مهاجمة مدينة “جرابلس”.
لن ترسل تركيا قوات عسكرية مكثفة إلى داخل الأراضي السورية، ولن تخوض حربًا ساخنة مع تنظيمات “بي يي دي” و”بي كا كا” و”داعش”، خاصة أن حزبي “الشعب الجمهوري” والشعوب الديمقراطي” المعارضين في تركيا، يرفضان تمامًا هذه الفكرة، إضافة إلى أن خوض حرب من هذا القبيل ضد مسلحي الـ”بي يي دي”، سيدفع بأنصار منظمة “بي كا كا” في تركيا، نحو النزول إلى الشارع وإحداث فوضى في البلاد.
الخطوة الأولى ستقتصر على تدخل عسكري محدود
أعتقد أن احتمال تدخل عسكري في سوريا، سيكون من خلال نشر مدفعيات طويلة المدى على الحدود وشن غارات جوية، حيث ستبذل تركيا قصارى جهدها من أجل منع توحد الكانتونات، التي تقع تحت سيطرة مسلحي الـ”بي يي دي”.
ومع ذلك، فإن الأيام المقبلة ستكون عصيبة بالنسبة لتركيا، فمن الواضح أن نظام الأسد وإيران والولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل قد أعطوا الضوء الأخضر لتنظيم الـ”بي يي دي”، من أجل إنشاء دولة أو منطقة حكم ذاتي كردية شمالي سوريا، فيما ترفض روسيا تلك الفكرة، فقط لأن تلك المنطقة ستكون حتمًا ضمن حدود السيطرة والهيمنة الأمريكية. إن كل هذه الأحداث تشكل ضغطًا كبيرا على الحكومة التركية، الخارجة لتوها من الانتخابات البرلمانية، والتي لم تتمكن من الوصول إلى اتفاق من أجل تشكيل حكومة جديدة، والتي تسيُّرُ أعمالها تحت ضغوط احتمالات إجراء انتخابات مبكرة.
المصدر – تورك بريس