منتظراً في الحافلة الصغيرة، أمضيت ما يقارب الساعتين في حرِّ الشمس !! كان الانتظار متعباً ومملاً ومجدياً معاً !! فأخيرا انطلقنا من باب الهوى إلى إدلب،
وبمجرد أن تسير الحافلة تشعر بنشوة العبور، قد يكون عبوراً إلى المجهول فالطيران الحربي عاود قصفه لريف إدلب بعد فترة تخفيض الأعمال القتالية، لكن يبدو أنَّ شراهة نظام الأسد للدم والتدمير وقتل المزيد من الأبرياء لا تنتهي.
وربَّما يعطي ذلك مبرراً كافياً للنائمين على أرصفة الوطن بأن يغادروه بأسرع وقت ممكن إلى تركيا، وهناك يختلف الرصيف وتتبدل المعاناة، فأرصفة تركيا أكثر نظافة وأجمل منظراً، لكنًّها لا تخلو من السوريين الذين امتهنوا البيع على بسطات الطرقات، وكثير منهم كان من أصحاب المحلات في مدينته أو قريته، ولعلك تتعاطف مع بعض الأطفال السوريين الذين افترشوا الرصيف للتسول أو بيع المناديل الورقية!
كانت إجازة العيد قد انتهت، وبدأ السوريون بالعودة إلى تركيا عبر معبر باب الهوى، وكان قد سبق العيد خلاف بين فصيلين عسكريين نجم عنه توقف عمل المعبر لفترة من الزمن كانت كافية لزيادة أعداد المنتظرين، وكفيلة بزيادة فوضى المعبر من الجانبين السوري والتركي !!
المعبر يغص بالعابرين، لكنَّ أحداً لم يستطع العبور، مجموعة من السيدات افترشنَ الأرض بملابسهنَّ السوداء التي توحي بالوقار والحزن وتدل بوضوح على أنَّهنَّ (بنات نعمة) كما يُقال.
قالت إحداهنَّ لي: “أتينا من مكان بعيد، وكل يوم ننتظر حتى الرابعة عصراً على أمل العبور، لكنَّنا لا نعبر، ولولا أن قصفت بيوتنا لما عدنا إلى تركيا”
عبارة هذه السيدة جرحت قلبي، وذكرتني بتسجيل صوتي وصلني قبل أيام يشتكي فيه صديقي الطبيب الجراح المقيم في المملكة العربية السعودية ممَّا سماه الوطن البديل…!!
أوطان بديلة منتشرة في كل أنحاء العالم احتوت السوريين من كل أرجاء سورية، لكنَّها لم تستطع أن تنسيهم الوطن الأم، تلك الأوطان البديلة تشبه كما قالت لي أختي، والتي لم أرها منذ خمس سنوات، زوجة الأب، فهي -وإن كانت طيبة وحنونة-لكنَّها لا تنسى أبداً أنَّنا من أم أخرى، ولسنا أولادها الحقيقيين …
وطنٌ بديلٌ فيه سماء أكثر ارتفاعاً من سمائنا، وفيه أنهار وأشجار وعصافير تغني طوال الوقت، فيه ديموقراطية وحرية أكثر.
وطنٌ بديلٌ عادلٌ وظالمٌ في آنٍ واحد! يعطيك كل ما تحتاج إليه، لكنَّه يدعك معلقاً في الهواء متأرجحاً بين أنين الذكريات الجميلة والمحزنة معاً، وبين الرغبة الملحة في العودة إلى الوطن الحقيقي.
إلى بيتك حيث تسكن روحك ويطمئن قلبك، إلى حارتك حيث يلقي عليك التحية كل يوم البقال والجزار والحلاق والبائع المتجول وحتى مئذنة الجامع والمصابيح.
في الوطن البديل لا أحد يلقي عليك التحية كلما خرجت إلى الحارة، هناك لا يوجد حارة، فقط بيوت كأنَّها معلقة بحبال غليظة في مكان واسع مليء بالصخب، لا أحد يهتم بأحد، الكل يركض إلى اللانهاية!
“تعبنا من البحث عن السكن والأمان في أوطان ليست لنا ولا نحن لها” مرة أخرى تذكرت السيدة التي افترشت رصيف الوطن منتظرة العبور إلى تركيا.
ولمن يحاول أن ينسى المأساة، دعني أخبرك لآخر مرة، أنَّ تلك السيدة سورية بامتياز، هدم بيتها وصار الرصيف فراشها، وفي الوطن البديل تعمل طوال النهار لتكسب لقمة عيشها، تلك السيدة استشهد زوجها بشظية طارت من برميل أسدي،
تلك السيدة لديها ثلاثة أطفال يسألون كل يوم عن بيتهم المقصوف وأبيهم الذي سبقهم إلى الجنة ويحلمون كل ليلة بسطح دارهم البسيطة حيث كان القمر يلعب معهم في ليالي الصيف قبل سنوات مضت.
هل سنعود يا أمي؟!