النائب اللواء حاتم باشات | مصر
هذه مختصر الحكاية للقصة الكاملة لمعضلة دونالد ترامب الحالية؛ لأن الخوض في التفاصيل المرعبة يحتاج إلى كتاب كامل، فمنذ الشهور الأولى لوصول دونالد ترامب إلى الحكم برزت قضية التدخل الروسي فى الانتخابات الأمريكية، وكان وصوله مفاجأة مرعبة للأوساط السياسية والمثقفة فى أمريكا، حتى إن افتتاحية النيويورك تايمز كانت مخيفة، إذ كان العنوان الأساسي لها “دونالد ترامب وصل إلى سدة الحكم..
كلمات لم نكن نتمنى أبدًا أن نكتبها” ولأن ترامب بالأساس ليس سياسيًا إنما تاجر فقد اختار تصادمًا في شدة الغباء مع الإعلام الأمريكي ووصفه بالمزيف، حتى إنه فى أحد مؤتمراته الأولى بعد الوصول إلى الحكم طرد مراسل CNN فصار عدوًا صريحًا للإعلام الأمريكي وهو آلة جبارة يمكنها اكتساح الأخضر واليابس بلا مبالغة.
ثم ظهرت أولى التقارير التي تذكر أن المخابرات الأمريكية ومكتب التحقيقات الفدرالي تحقق فى تقارير عن تورط روسي مؤكد فى التأثير على نتيجة الانتخابات وتسهيل وصول دونالد ترامب للحكم، ولأن الإعلام لا يطيقه تلقف الأخبار وأقام الدنيا ولم يقعدها، فصار ترامب حديث الصباح و المساء، ثم ظهر الخيط الأول (جيمس كومي) مديرFBI ومعضلة كومي أنه قبيل الانتخابات بأيام قليلة تسبب فى هبوط شعبية هيلاري كلينتون بشدة عندما أصدر تقريرًا يشير إلى احتمالية تورط هيلاري فى مراسلات رسمية مع الروس قد تضر بالأمن القومي، وعاد بعد الانتخابات ونفى ذلك التقرير واعتذر بشدة لهيلاري على ما فعله.
المهم أن الجميع موقن بأن ما فعله كومي أحد أسباب خسارة كلينتون. المعضلة إذًا أنه لا أحد يمكن أن يصدق بعد ذلك أن كومي قد يكون عدوًا لترامب؛ لأنه أحد أسباب وصوله للحكم. فوجئ الجميع بإقالة جيمس كومي منFBI ثم ظهر كومي وهاجم ترامب بضراوة ناعتًا إياه بالكذب والتواطؤ وأنه طلب منه حرفيًّا إيقاف التحقيقات فى التدخل الروسي، ونشر كتابًا مزلزلاً يقصف ترامب بكل السبل، وهنا سيتضح كيف تعمل دول المؤسسات لا الأفراد. الكونجرس الذي يحوز أغلبيته الجمهوريين قرر تعيين المحقق الخاص روبرت مولر لاستقصاء الأمور بكل الطرق الممكن، ولم يصمت ترامب فهاجم مولر ولجنته، وصمت مولر الذي يبدو كثعلب حقيقي، وفي تلك الأثناء الملتهبة دوت القنبلة الجديدة، حيث ظهر مدير المخابرات الأمريكية الأسبق ليقول إنه يؤمن تمامًا أن روسيا تملك أشياء سوداء مخزية تبتز بها ترامب وتتحكم به تمامًا، وهنا وجد مولر أنه فى تحقيق مخيف، هذه شهادة أعلى رجال أمن فى الولايات المتحدة مديرا FBI وCIA وأيقن مولر أن الأمور ستزداد سوءًا وهو ما كان، حيث ظهرت أربع هدايا لمولر في وقت واحد تقريبًا )جورج نادر، ستورمي دانيالز، كامبريدج اناليتيكا، الجاسوس الإلكتروني الروسي الغامض ) جورج نادر هو رجل أعمال أمريكي من أصول لبنانية سبق سجنه فى التشيك لارتكابه أعمال جنسية مشينة ضد أطفال، ولديه علاقات متشعبة في العديد من دول الشرق الأوسط خاصة الكيان الصهيوني ونتنياهو صديقه الصديق. منذ عام 2016 بدأ نادر يقدم نفسه على أساس أنه مستشار ولي عهد أبي ظبي، ظهر وقتها تقرير لم يلفت الانتباه كثيرًا بشأن ترتيب لقاء سري بين ترامب وبوتين فى سيشل برعاية نادر، تلقف مولر التقارير وقبض على نادر وحقق معه وهاله ما أدرك، لم تكن روسيا فقط هي من تدخلت فى الانتخابات، كانت الأراضي الأمريكية مرتعًا للجميع.
ثم ظهرت ستورمي دانيالز ممثلة الأفلام الإباحية التي ادعت أن مايكل كوهين محامي ترامب دفع لها أموالاً كبيرة لتخفي علاقتها الجنسية مع ترامب قبيل الانتخابات، وهي جريمة خطيرة فى القانون الأمريكي، وأنكر ترامب ونعتها بالكاذبة قبل أن يتراجع لاحقًا، وصارت دانيالز ضيفة مستمرة فى كافة القنوات الأمريكية تحكي باستفاضة كل التفاصيل المشينة عن علاقتها بترامب واتسعت فضيحة ترامب.
ثم ظهر تقرير استخباراتي يؤكد أن أحد أشهر الهاكرز الروس تدخل فى الانتخابات الأمريكية ثم تأكد CIA من هويته، فهو ضابط في المخابرات الروسية، ثم اتضح الأخطر، فقد تواصل مع حملة ترامب قبيل الانتخابات، وازداد الطين بِلة بظهور فضيحة كامبردج أناليتيكا، وهي شركة ذات شهرة عالمية تعمل فى مجال الإنترنت ومواقع التواصل وأصدرت بيانًا رسميًّا تؤكد تورطها في التأثير فى الانتخابات الأمريكية باقتحام ملايين حسابات فيس بوك في أمريكا، وكانت فضيحة لفيس بوك وخسر يومها 10 مليارات دولار من رأس ماله السوقي وجرت جلسة استماع لزوكنبرج فى الكونجرس وبدا متوترًا قلقًا حيث كان الخوف يدبغ وجهه المتعرق واعتذر للشعب الأمريكي.
أدرك روبرت مولر وقتها من ملايين الصفحات للتقارير التي يتابعها أعضاء لجنته أن هذه جريمة غير مسبوقة فى تاريخ أمريكا لم تصنعها روسيا وحدها بل الكثيرون وأن المال نجح فى شراء الأمن القومي الأمريكي وأن الاختراق الأمني على مستوى عالٍ فى أمريكا ومخيف، ثم ظهر تقريران أيقن بعدها مولر أنه أمام جريمة تواطؤ كاملة تصل إلى حدِّ الخيانة العظمى.
التقرير الأول يوضح أن جاريد كوشنر صهر ترامب ومستشاره اليهودي الشاب المتعصب للكيان الصهيوني اطلع على تقرير أرسلته المخابرات لترامب بأن العشرات من أمراء الأسرة الحاكمة فى السعودية أرسلوا تقريرًا للمخابرات الأمريكية يبدون رفضهم لوصول محمد بن سلمان لسدة الحكم، فما كان من كوشنر بعد قراءة التقرير مباشرة إلا أن طار بنفاثة صوب أوروبا ومنها إلى الرياض التي وصلها فجرًا فقابل بن سلمان مدة ساعتين قبل أن يعود إلى أمريكا دون توقف، وبعدها بعدة ساعات جرى توقيف الريتز كارلتون الشهير لأمراء المملكة.
كانت كارثة على أثرها قررت المخابرات الأمريكية دون الرجوع إلى ترامب تخفيض التصريح الأمني لكوشنر وعدم السماح له بقراءة تقارير أمنية من الدرجة الأولى مقدَّمة لترامب، وقررت فتح تحقيق عميق بخصوص جاريد كوشنر .
أما التقرير الثاني الذي صعق مولر كان بخصوص ريكس تيلرسون وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، وهو رجل شديد المهابة والاحترام والوطنية في أوساط صناعة القرار الأمريكية. أشار التقرير إلى أن تيلرسون أحبط غزوًا سعوديًّا بحرينيًّا بريًّا لقطر فى أعقاب الأزمة الخليجية مباشرة، وأن تيلرسون هدد ترامب وكوشنر بأنَّ هذا لو حدث ستكون كارثة كبرى للخليج و أمريكا. بعد أن سقط مخطط كوشنر لاجتياح قطر تسرب تقرير جديد مفاده أن جورج نادر أوعز إلى إليوت برودي مستشار ترامب بإقالة ريكس تيلرسون ، وتعيين مايك بومبيو وزيرًا للخارجية وجون بولتون مستشارًا للأمن القومي، و هما معروفان بعداء كبير لإيران وتركيا و محبة كبيرة للكيان الصهيوني .
صار مولر يوقن أن التواطؤ وصل إلى حدٍّ مشين و أن حلقات صنع القرار فى أمريكا مخترقة على كافة المستويات، وواكب هذا مأساة قمة ترامب بوتن في هلسنكي التي أسماها الأمريكان قمة الخيانة .
صار الوضع مأساويًا في واشنطن، فأول أمس وبعد تحقيقات لعام ونصف أيقن مولر أنه لم يعد الانتظار ممكنًا فى مستنقع الخيانة هذا.
تلقى ترامب طعنة نجلاء قاتلة من محاميه مايكل كوهين الذي رتَّب صفقة مع مولر للنجاة بنفسه سينال على مقتضاها 5 سنوات في السجن بعد أن سلم ترامب تمامًا و أقرَّ بكذبه بإيعاز من ترامب، هاجمه ترامب بضراوة، ثم أصدر محامي كوهن بيانًا فجر الأمس هدد ترامب علانية بأن كوهين بإمكانه تقديم معلومات إضافية بإمكانها الإضرار الشديد بترامب.
ثم كانت الطامة الكبرى فى اليوم نفسه بإدانة (بول مانا فورت) مدير حملة ترامب الانتخابية بالعديد من التهم قد يحصل بسببها على 10 أعوام فى السجن.
وبدا مولر متحكمًا ومسيطرًا تمامًا، وظهر وقد أعد الفخ كاملاً ولم يعد بإمكان أحد إيقاف خطته، وظهر ترامب مرعوبًا وللمرة الأولى يهدد بأن عزله سيدمر الاقتصاد العالمي وسيؤدي إلى الفوضى، ولم يعره مولر انتباهًا، فهذا الثعلب تمكن حتى صارت خطته كاملة ..
هل سيعزل ترامب؟ نعم، أظن ذلك، ولماذا سيعزل؟ وما هي تداعيات اللحظة الرهيبة الحالية فى السياسة الأمريكية؟
المصدر: بوابة الدولة الإخبارية