ربما يتردد هذا السؤال اليوم على عدد كبير من الشفاه التي تقطر دماً، أو تلك المرتجفة ممَّا هو قادم، ألم يكن الوضع مناسباً لكيلا تُسفك كل هذه الدماء، ولا تُهدّم كل تلك المدن، ولا يُهجر أولئك المقتلعون من أرضهم، ويُعذب آلاف المسجونين في غياهب الظلمة؟! أليست مفارقتنا العجيبة أننا خرجنا نطلب حريتنا من قيدٍ ما، فتوزّعتنا السجون والمنافي والقبور، أي حريةٍ تلك التي حلمنا بها، وأي حلمٍ تحقق؟!
لقد أتعبنا أنفسنا ومن بعدنا بدَينٍ كبير من الدماء، وحملٍ ثقيل من الثأر، وطلبٍ لا ينتهي للقصاص، فأيُّ حرب تلك التي خاضتنا بدل أن نخوضها؟ وأي ثورة تلك التي مزقتنا بدل أن نُمزق أعداءنا بها؟ وأي حلم كبير بالحرية استحال إلى سجن واسع لا نقدر على الفكاك منه، فقد أثقله الواجب وملأته الوصايا والدماء؟
هذا الطريق الذي نسير به ليس اختيارنا فحسب، بل هو اختيار كرامتنا وإنسانيتنا، كل ما عايشناه منذ ثماني سنوات تقريباً يُخبرنا أن ما خطونا تجاهه هو الصواب. حتى لو خسرنا معركتنا اليوم في آخر جبهاتها، سيكفينا أننا لم نُسلم الحق للباطل، ولم نركن للظلم والخيانة، لم نبع وطننا لطغمة مجرمة استعانت على شعبها بكل جيوش الأرض من أجل البقاء في الحكم، وسلمت البلاد وأهلها وباعتهم بأبخس الأثمان لكي يبقى الدمية فوق كرسيه كركوزاً لا يملك من أمره شيئاً.
الحرب متعبة، مليئة بالنكبات والخسارات، ولكن الهزيمة لا تليق بنا ونحن نتنفس عبق الشهداء ونحيا على أرض خالطتها دماؤهم، لا يُهزم من أقسموا على المضي في الطريق حتى النهاية، لأن أنفاسهم أطول من ذلك الطريق، وعزيمتهم أصلب، وسيفهم أمضى وأعمارهم لا تنتهي، ذلك أنهم لا يتوقفون أبداً، ففي الحروب من يتوقف أولاً هو يحكم على نفسه بالهزيمة. “وا خيبة الحق إن لم يجد في نفوس أبنائه تلك العزيمة والتضحية التي يجدها الباطل في نفوس من التف حوله”، لن يُهزم إلا من قعد عن نضاله وأعطى حقه لعدوه صاغراً، وبكى أطلال مدينته وغادر حربه مستسلمًا. أما القابضون على الجمر فسيرتد الجمر في أيديهم حجارة باردة يبنون بها وطنهم من جديد.
علينا أن نستمر فقط، ألا نتوقف ولا نتعب مهما طال علينا الطريق وعظُمت الشقة، وألا يصيبنا اليأس والملل، وألا نلتفت لخلاصنا الفردي وحياتنا الضيقة، أن نقاتل على ثغورنا التي نعمل بها لننتصر، وألا نحولها إلى شغل نأكل به الخبز فحسب، أن نبذل ما نستطيع من جهد وعرق وسهر ودماء، أن نستمر بكل العزيمة الممكنة، ولا نضعف أو نفتر أبدًا …
المدير العام | أحمد وديع العبسي