من كان يظن أنَّ شاباً تونسياً بسيطاً، بمدينة تونسية صغيرة، سيشعل النار بنفسه، ويشعل معه العالم؟
بالطبع لا يرقى هذا العمل بذاته لأن يضرمَ نارَ حرب عالمية ثالثة، إذا قارناه مثلا باغتيال ولي عهد النمسا عام 1914 على يد غافريلو برينسب.
لكن ما بعد حادثة البوعزيزي، اتخذت المجريات منحى دراماتيكياً متصاعداً، ثورات شعبية، إسقاط أنظمة مستبدة عمرها عشرات السنين، ثورات مضادة، حروب أهلية، كانت فيها أحداث منطقة الشرق الأوسط هي الأشد تأثيراً في الخريطة العالمية.
إلى أن أصبحنا اليوم في واقع تراجعت فيه سياسة القطب الأميركي الواحد لصالح مكاسب روسية على أرض سورية وأوكرانيا، وخرجت إيران بحصة الأسد عبر نشر أذرعها لتطوق أربع عواصم عربية.
يزيد المشهد تعقيداً موضوع استفتاء إقليم كردستان، وما سيتبعه على الأغلب من اندلاع حرب قومية بين تحالف يجمع تركيا، إيران، سورية، العراق، ضد الكيان الكردي الوليد.
استقلال إقليم كردستان قد يكون سبباً لتقارب تركيا مع النظام السوري على حساب الثورة، لأنَّ تركيا ترى القوميين الأكراد على رأسهم pkk، التهديد الأول لها، ومن مصلحتها التحالف مع النظام السوري وشركائه الإيراني، والعراقي، ضد هذا التهديد.
النظام السوري بيده ورقة قوية للضغط على الحكومة التركية، وهي خوف الحكومة التركية من دخول أي حرب، فالعدالة والتنمية يسعى للوصول إلى عام 2023 بهدوء ودون مشاكل، ونجاح العدالة والتنمية قائم على النهضة الاقتصادية والبنيوية التي حققها للمجتمع التركي، التي قد يقوضها النظام السوري بدعمه pkk للقيام بعمليات إرهابية داخل تركيا، تدفع الشعب ليضغط على حكومته حتى يعود لسياسة صفر مشاكل مع النظام السوري، ليتفرغ مرة جديدة لترميم الداخل، خاصة أنَّ مناطق الشرق السوري التي يعتبرها القوميون الأكراد جزءاً من دولة كردستان، واقعة تحت سيطرة pyd ، ولا سلطة حقيقية للنظام السوري عليها، وبالتالي لن يخسر النظام الكثير بمواجهة pyd.
ما يدفع أكثر بهذا الاتجاه هو فشل الثوار إلى الآن في لململة صفوفهم وإثبات أنفسهم كشركاء يوثق بهم بالنسبة إلى تركيا.
طبعا استقلال كردستان سيرافقه دعم أميركي صهيوني، أولاً لاستغلال ثروات الإقليم وتنشيط صفقات بيع السلاح لحكومته، وثانياً لخلق بؤرة توتر تستنزف الأنظمة التي قد تشكل خطراً على الإدارة الأمريكية وحليفتها إسرائيل.
وطبعاً روسيا ستستفيد من استقلال كردستان لتعزيز هيمنتها بالمنطقة بدعوى دعم حلفائها في مواجهة حلف أميركا، وأيضاً ستزيد من بيع سلاحها للدول المحاربة ضد القوميين الأكراد.
من الغريب أن يتخذ مسعود البرزاني المعروف بدبلوماسيته، قراراً متهوراً بإعلان استفتاء لاستقلال إقليم كردستان، ضارباً بعرض الحائط التحذيرات من خطورة قراره، ومخاطراً بالمكتسبات التي حققتها حكومة الإقليم طوال السنوات السابقة.
قرار استفتاء الاستقلال يشبه لحد كبير قرار إعلان تنظيم داعش خلافته المزعومة، ويبدو أنَّ النتيجة ستكون سقوط المعقل الثاني للسنة في كردستان، بيد الميليشيات الشيعية الطائفية، بعد سقوط حواضر العرب السنة كالموصل والفلوجة بيدها.
الميليشيات الشيعية عززت من وجودها في سورية، بمناطق قريبة نسبياَ من الكيان الصهيوني، ممَّا دفع الكيان للقيام بالعديد من الغارات التي استهدفت أغلبها شحنات سلاح أو مراكز تتبع بشكل أو آخر لحزب الله، وأطلق الكيان الصهيوني تهديدات أتبعها بمناورات شمال فلسطين المحتلة، بما يفهم أنَّها رسائل مباشرة لإيران وميليشياتها بأنَّ الكيان الصهيوني لن يسمح بخلق حزام إيراني ضاغط على حدوده الشمالية، يشابه ما فعلته إيران مع السعودية.
يزداد الضغط الإيراني على السعودية عبر دعم الحوثيين في اليمن، وشيعة الإحساء في الشرق، مع التغيرات العاصفة التي ضربت الخليج كحصار قطر، الذي استفادت منه إيران لأقصى حدّ، والذي قد يكون المسمار الأخير في نعش مجلس التعاون الخليجي، إضافة إلى المسار العلماني المناهض للدين الذي تسلكه المملكة بقيادة محمد بن سلمان وتجلى ذلك بعدة أمور ليس آخرها اعتقال الدعاة الإصلاحيين.
في أقصى الشرق تتسارع خطوات كوريا الشمالية، حليفة الصين وروسيا، في مسيرتها للوصول إلى القنبلة النووية، وتتعالى مع هذه الخطوات تهديدات زعيمها لأميركا وحلفائها في شرق آسيا كاليابان وكوريا الجنوبية.
إضافة لرغبة الصين الملحّة للسيطرة عبر مبادرة ” الحزام والطريق ” التي تهدف من خلالها لخلق نظام اقتصادي سياسي يربط الدول التي تقع غربها باتجاه أوروبا بفلكها، وهذا هو أحد أسباب استكمال تهجير مسلمي أراكان بهذا الشكل الوحشي الفج.
المبادرة الصينية تهدف لإعادة فتح طريق الحرير المشهور لكن بشكل عصري، من الصين حتى أوروبا، وبفرعين بحري وبري، مروراً بـ 68 بلداً.
ﻳﺘﻀﻤﻦ ﺍﻟﻔﺮﻉ ﺍﻟﺒﺮﻱ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺒﺎﺩﺭﺓ 6 ﻣﻤﺮﺍﺕ، إﺿﺎﻓﺔ إﻟﻰ ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﺒﺤﺮﻱ
ﻭﻫﺬﻩ ﺍﻟﻤﻤﺮﺍﺕ ﻫﻲ:
ﺍﻟﺠﺴﺮ ﺍﻟﺒﺮﻱ ﺍﻷﻭﺭﺍﺳﻲ ﺍﻟﺠﺪﻳﺪ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺘﺪ ﻣﻦ ﻏﺮﺑﻲ ﺍﻟﺼﻴﻦ إﻟﻰ ﺭﻭﺳﻴﺎ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ.
ﻣﻤﺮ ﺍﻟﺼﻴﻦ – ﻣﻮﻧﻐﻮﻟﻴﺎ – ﺭﻭﺳﻴﺎ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺘﺪ ﻣﻦ ﺷﻤﺎﻟﻲ ﺍﻟﺼﻴﻦ إﻟﻰ ﺍﻟﺸﺮﻕ ﺍﻟﺮﻭسي.
ﻣﻤﺮ ﺍﻟﺼﻴﻦ -ﺁﺳﻴﺎ ﺍﻟﻮﺳﻄﻰ -ﺁﺳﻴﺎ ﺍﻟﻐﺮﺑﻴﺔ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺘﺪ ﻣﻦ ﻏﺮﺑﻲ ﺍﻟﺼﻴﻦ إلى ﺗﺮﻛﻴﺎ.
ﻣﻤﺮ ﺍﻟﺼﻴﻦ -ﺷﺒﻪ ﺟﺰﻳﺮﺓ ﺍﻟﻬﻨﺪ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﺔ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺘﺪ ﻣﻦ ﺟﻨﻮﺑﻲ ﺍﻟﺼﻴﻦ إﻟﻰ ﺳﻨﻐﺎﻓﻮﺭﺓ.
ﻣﻤﺮ ﺍﻟﺼﻴﻦ -ﺑﺎﻛﺴﺘﺎﻥ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺘﺪ ﻣﻦ ﺟﻨﻮﺏ ﻏﺮﺑﻲ ﺍﻟﺼﻴﻦ إﻟﻰ ﺑﺎﻛﺴﺘﺎﻥ.
ﻣﻤﺮ ﺑﻨﻐﻼﺩﻳﺶ -ﺍﻟﺼﻴﻦ -ﺍﻟﻬﻨﺪ -ﻣﻴﺎﻧﻤﺎﺭ، ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺘﺪ ﻣﻦ ﺟﻨﻮﺑﻲ ﺍﻟﺼﻴﻦ إﻟﻰ ﺍﻟﻬﻨﺪ.
ﻃﺮﻳﻖ ﺍﻟﺤﺮﻳﺮ ﺍﻟﺒﺤﺮﻱ ﺍﻟﺬﻱ ﻳﻤﺘﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﺎﺣﻞ ﺍﻟﺼﻴﻨﻲ ﻋﺒﺮ ﺳﻨﻐﺎﻓﻮﺭﺓ ﻭﺍﻟﻬﻨﺪ ﺑﺎﺗﺠﺎﻩ ﺍﻟﺒﺤﺮ ﺍﻟﻤﺘﻮﺳﻂ.
الصين والهند قوتان نوويتان، حصلت بينهما من عدة شهور توترات حدودية أدَّت لاشتباكات بالأيدي بين عشرات الجنود من الطرفين، بسبب نزاعهما القديم على منطقتين، الأولى هي ﻫﻀﺒﺔ ” ﺃﺭﻭﻧﺎﺗﺸﺎﻝ ﺑﺮﺍﺩﻳﺶ “، وهي ﻣﻨﻄﻘﺔ ﺣﺪﻭﺩﻳﺔ شرق الهند، ﺗﻘﻊ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﻭﻣﻤﻠﻜﺔ ﺑﻮﺗﺎﻥ، ومساحتها حوالي 4000 كلم مربع، والثانية هي ” ﺃﻛﺴﺎﻱ ﺗﺸﻴﻦ ” ، وهي ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻣﺘﻨﺎﺯﻉ ﻋﻠﻴﻬﺎ ﺑﻴﻦ ﺍﻟﻬﻨﺪ ﻭﺍﻟﺼﻴﻦ ﺗﻘﻊ ﻏﺮﺏ ﺟﺒﺎﻝ ﺍﻟﻬﻴﻤﺎﻻﻳﺎ ، ﺗﺒﻠﻎ ﻣﺴﺎﺣﺘﻬﺎ ﻧﺤﻮ 38 ﺃﻟﻒ ﻛﻴﻠﻮﻣﺘﺮ ﻣﺮﺑﻊ، ﻭﻫﻲ ﺧﺎﻟﻴﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺴﻜﺎﻥ ﺗﻘﺮﻳﺒﺎً، ﺗﺤﺘﻮﻱ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻌﺪﻳﺪ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺤﻴﺮﺍﺕ ﺍﻟﻤﺎﻟﺤﺔ، ﻭﺗﺨﻀﻊ ﺍﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻟﻠﺴﻴﻄﺮﺓ ﺍﻟﺼﻴﻨﻴﺔ، ﻭﺗﻌﺪﻫﺎ ﺍﻟﺼﻴﻦ ﺟﺰﺀﺍً ﻣﻦ ﺇﻗﻠﻴﻢ ﺷﻴﻨﺠﻴﺎﻧﻎ، ﻭﻻ ﺗﺰﺍﻝ ﺍﻟﻬﻨﺪ ﺗﻄﺎﻟﺐ ﺑﺎﻟﻤﻨﻄﻘﺔ ﻭﺗﻌﺪﻫﺎ ﺟﺰﺀﺍً ﻣﻦ ﻣﻨﻄﻘﺔ ﻟﺪﺍﺥ ﺍﻟﻮﺍﻗﻌﺔ ﻓﻲ ﺇﻗﻠﻴﻢ ﺟﺎﻣﻮ ﻭ ﻛﺸﻤﻴﺮ.
هذه التوترات الحدودية، إضافة لمسألة لجوء الدالاي لاما للهند هرباً من الصين، التي سببت نشوب حرب بين الطرفين عام 1962، وكادت أن تقع حرب أخرى عام 1987 بعد سلسلة مواجهات حصلت ذلك العام.
وهناك أيضا النزاع الباكستاني الهندي _وباكستان دولة نووية _ حول إقليم جامو وكشمير، والخسائر الأمريكية المتزايدة لأميركا وحلفائها في أفغانستان.
وفي أوروبا يزداد النفوذ الروسي المهدد لأمنها في شرقها، مع مخاوف من غزو روسي لشرق أوكرانيا، أو لروسيا البيضاء ودول البلطيق، كما فعلت روسيا حين غزت جورجيا عام 2008.
روسيا تخنق أوروبا اقتصادياً، عبر تحكمها بقسم كبير من وارداتها الطاقية، من خلال أنابيب الغاز المسال المارة من أراضيها، وتمنع وصول بدائل له من قطر أو إفريقيا، إضافة لزيادة شعبية وسطوة اليمين الأوربي صاحب الخطاب العدائي للمسلمين تحديداً اللاجئين منهم، حيث يستفيد من المشاكل المتولدة من ملف اللاجئين لاستغلالها في الترويج لأجندته، والمخاوف من انهيار الاتحاد الأوروبي وتفكك وحدة القارة، بعد خروج بريطانيا من الاتحاد، وطلب اسكتلندا الاستقلال عن بريطانيا، ومطالبة اليمين الهولندي والفرنسي بانسحاب بلديهما من الاتحاد الأوروبي، وتنامي دعوات الاستقلال في الباسك وكاتلونيا وغيرها، كل هذا ينذر بمستقبل أوروبي يحول هدوء القارة النسبي إلى فوضى مدمرة.
في مصر تتنامي سيطرة تنظيم الدولة في سيناء، وهناك فشل متزايد للنظام الانقلابي المصري الذي يحكم 90 مليون إنساناً، والنزاع المسلح متعدد الأطراف في ليبيا، وازدياد موجات اللاجئين للقارة العجوز، وموضوع سد النهضة وما سيشكله من مشاكل استراتيجية خطيرة على مصر تهدد وجودها، وحركة بوكو حرام والتحالف الذي تشكَّل لقتالها، وقائمة من المشاكل في إفريقيا التي لا تستطيع إحصاءها.
كل ما ذكرناه سابقا يخبر بأنَّ كوكب الأرض في حالة تشنج مستعصٍ، سيعقبه على الأغلب انفجار حرب كونية ثالثة قد تكون أخطر ممَّا سبقها بسبب اتساع رقعة الصراع، وكثرة الأطراف المتصارعة، وتشعب مصالحها، ووجود السلاح النووي بيد أطراف متعددة، لكن في هذه الحرب هناك أمل يلوح بالأفق للشعوب المستعبدة من النظام الدولي في مختلف أنحاء الأرض لتنعتق من رقه، إذا أحسنت استغلال سنة التدافع الكوني لهدم ما تبقى من نظام القطب الواحد، وخلق نظام متعدد الأقطاب تجد الشعوب المستضعفة فيه متنفساً لتبني نفسها وتنتزع قرارها الوطني وسيادتها.
وعلينا كشعوب مسلمة تعتبر أكثر من عانت من رق النظام الدولي، سواء أصابت توقعات الحرب العالمية الثالثة وسقط على إثرها النظام الدولي، أو أخطأت، علينا في الحالتين ألا يشلنا اليأس، ولا يخدرنا الأمل، عن وضع استراتيجية خاصة بمصالحنا، تنطلق من عقيدتنا، وتناسب وضعنا، حتى لا نقع باستراتيجيات الدول والشعوب الأخرى كما حدث معنا في الحربين العالميتين السابقتين.