د. عبد الحي زلوم
أصبح واضحاً ان الولايات المتحدة ترغب في تغيير نظام اردوغان بدءاً بمحاولة الانقلاب التي كان على رأسها غولين والذي ما زال في الولايات المتحدة والتي كان مركز قيادة عملياتها في قاعدة انجرليك المتواجدة فيها قيادة فرعية لناتو وما يسمى بالتحالف ضد الارهاب. كذلك فإن الضغوط الاقتصادية والسياسية ضد النظام قد بدأت تتصاعد بما في ذلك الارهاب وضرب السياحة في تركيا والتي خسرت عشر مليارات دولار في سنة 2016 عن السنة السابقة.
كذلك تقوم الولايات المتحدة بالتحالف مع الاكراد في سوريا وبطريقة استفزازية لما يعتبره نظام اردوغان اساساً للامن القومي التركي . كما ان النظام المالي العالمي الذي يديره المضاربون القابعون في وول ستريت قد بدءوا هجومهم على العملة التركية بما في ذلك من عواقب وخيمة على الاقتصاد التركي في حالة استمراره.
كتبت الفايننشال تايمز في 11/1/2017 مقالاً بعنوان:” أزمة الثقة في الليرة التركية والاقتصاد في البلاد بشكل عام”. وقالت الصحيفة أن” تركيا أقرب اليوم للدخول في أزمة اقتصادية كبرى، أكثر من أي وقت مضى منذ استلام الحزب الحاكم مقاليد السلطة في البلاد منذ عام 2002″. وأضافت الصحيفة أنه “في الأشهر الثلاثة الماضية، خسرت الليرة التركية خُمس قيمتها تقريباً مقابل الدولار الأمريكي، إذ أن المستثمرين العالميين تراجعت ثقتهم بالاقتصاد التركي”. وهنا أدعي انني لم افاجئ بكل ما جاء اعلاه بل وكنت اتوقعه .
نظمت قناة الجزيرة ندوة عن الربيع العربي بتاريخ 16/3/2013. وكنت أحد المدعوين لالقاء كلمة عن اي لون من الاقتصاد ينبغي على اصحاب الربيع العربي اتباعه.. كان من بين المدعوين الدكتور حارس سيلوجوليك . Haris Silojolzic رئيس وزراء البوسنة بين سنوات 1993-1996 ايام التطهير العرقي لمسلمي البوسنة من الصرب وكنت اجلس الى جانبه مباشرة.
في كلمته من على المنصة على الهواء مباشرةً بيّن الدكتور حارس كيف ان الغرب كان يحابي الصرب بل يحمي عمليات تطهيرهم العرقي ، وكيف سعوا بعد ذلك لتفتيت البوسنة . عندما رجع الى مقعده ذهب متكلم اخر على الهواء. أبديت ملاحظتي على كلمة الدكتور حارس كتابة حيث كتبت ” ربما عاملوكم كذلك لأنكم مسلمون . الاتحاد الاوروبي أعرب انهم لا يرغبون بدولة اسلامية في اوروبا) . اعطيته الورقة فكتب مباشرة على خلفها: هذا ليس سراً ،
فقد كتبه المؤلف Taylor Branch في كتابه Clinton Tapes (قال كلينتون : للمؤلف تايلور برانش بأن حلفائه الاوروبيين لا يرغبون بدولة اسلامية في اوروبا مسيحية) . في فترة الاستراحة وتوقف البث المباشر وقفنا لاكمال ما بدأناه كتابة. كان اعجاب الدكتور حارس شديداً برجب طيب اردوغان . قلت أني أشاركه الاعجاب في نواحي عديدة في شخصية اردوغان ليس اقلها أنه اداري فقط يقال عنه أنه نظيف اليد ويحارب الفساد لكني اخاف على انجازاته الاقتصادية أن تذروها الرياح . ذلك لانها في النهاية رهينة الى عدد قليل من الاصحاب الحقيقين للنظام العالمي الرأسمالي القابعين في وول ستريت .. لم يسعفنا الوقت لاستكمال الحديث سوى أنه عبر عن اعتقاده بأنه ( الرجل واعي وصاحي) . وأني أنهيت قولي بإن التزاوج بين بعض الحركات الاسلامية والرأسمالية الأمريكية في الفترة الماضية محكوم عليه بالفشل من بدايته. يتم إستعمال الحركات الاسلامية تلك، ربما بحسن نية من طرفها أو سوء تقدير يتم استغلالها مرحلياً ثم تهميشها و البطش بها.
هناك ما اسمه socioeconomic orderوهو تزاوج النظام الاجتماعي مع النظام الاقتصادي. إن حلف الناتو الذي ورثه اردوغان هو جزء من منظومة عالمية وهي بطبيعتها معادية لاي نظام اسلامي او حتى غير اسلامي يتناقض مع فلسفتها الطفيلية لافتراس الشعوب الاخرى.
المرابون العالميون كالقطط يأكلون أطفالهم وليس لديهم محرمات وليس لهم اي انتماء وطني أو قومي وانتمائهم الوحيد الى جشعهم . فهم مستعدون أن يتطفلوا على الغرب والشرق على حد سواء . ودعني اعطي بعض الامثلة .
قدر ألين ميتزلر Allen Metzler في سنة 1995 وهو مرجع موثوق على الصعيد العالمي فيما يتعلق بالسياسة النقدية والبنوك المركزية بأنه اذا ما اتفقت كافة البنوك المركزية في العالم فيما بينها على اتخاذ موقف معين لحماية عملة ما في مواجهة هجوم المضاربين ، فإن أقصى ما يمكن ان تجمعه هذه البنوك هو 14 مليار دولار يوميا ، مقارنة مع 800 مليار دولار التي يستطيع المضاربون الماليون ضخها في السوق ، وبهذا فان إمكانياتهم تفوق إمكانيات البنوك المركزية المجتمعة بخمسين ضعفا . ونذكر هنا أن الاقتصاد الفرنسي ، و كان رابع اضخم اقتصاد في العالم تعرض لهجوم من المضاربين عام 1992 في وقت كان فيه الجميع يعتقدون بأن مقومات الاقتصاد الفرنسي كانت في وضع ممتاز . وقد حقق المضاربون ثروة نتيجة انقضاضهم الشرس على الفرنك الفرنسي نتيجة استغلالهم نقطة فنيّة . فقد كانت فرنسا تود البقاء ضمن نظام سعر الصرف (ESR) Exchange Rate System وكانت النتيجة التي اسفر عنها ذلك الهجوم أن أصبح على فرنسا أن تطبق اجراءات تقشفية كما لو كانت دولة نامية . فإذا كان رابع أضخم اقتصاد وأقواه في العالم عرضة للهجوم وهو في وضع صحي قوي ،
فما هي الدولة التي يمكن أن تكون محصنة ضد مثل هذه الهجمات الطفيلية الشرسة . ما دام اي بلد يفتح اقتصاده الى التحويل الحر للعملات والالتزام بمبادئ التجارة الحرة المصممة بإتجاه واحد لمصلحة المضاربين والمرابين العالمين فمن الصعب ايقاف مثل هذه العمليات الا بإجراءات تحدد عملية نقل العملات كما حدث في ماليزيا أثناء أزمة جنوب شرق آسيا في اواخر تسعينات القرن الماضي مما اثار اصحاب النظام المالي العالمي والذين اعترفوا جميعاً بأن اجراءات مهاتير محمد انقذت ماليزيا من المصير المأساوي لدول جنوب شرق آسيا الاخرى .
ودعنا نعطي مثالاً آخر:-
إن يوم الأربعاء الأسود ، حسب ما أُطلق عليه في المملكة المتحدة لم يكن كذلك بالنسبة الى جورج سوروس الذي حصد قرابة الملياري دولار في بضعة أيام من المضاربة على الجنيه الإسترليني. لقد كانت معركة جورج سوروس ضد بنك انكلترا Bank Of England ، البنك المركزي البريطاني أو لربما كانت معركة جورج سوروس العظيم ضد بريطانيا العظمى . فعندما لاحظ سوروس في أيلول عام 1992 أن الجنيه الاسترليني كان يجري تداوله قريبا من أدنى سعر محدد من قبل نظام سعر الصرف وهو 77, 2 مارك الماني مقابل الجنيه افترض سوروس أن على المملكة المتحدة أن ترفع اسعار الفائدة لديها حتى تجذب الودائع والاموال على الرغم من أن الاقتصاد البريطاني كان يمر في ظروف ركود.
وقد باع سوروس من الجنيهات الاسترلينية ، على المكشوف ، ما مقداره 10 مليارات دولار . وقد استشاط وزير الخزانة البريطانية غضبا معلنا انه لا يمكن تركيع بريطانيا العظمى لقانون المضاربين وعمدت الحكومة الى رفع سعر الفائدة بواقع 2% وأعلنت أنها ستقترض 15 مليار دولار للدفاع عن عملتها وقرر سوروس من جهته أنه سيضارب بما يعادل مبلغ 15 مليار دولار ، وأدرك أن الحكومة لن تستطيع الدفاع عن الجنيه اكثر من ذلك . والسؤال الذي يطرح نفسه : ما هو الشيء النافع الذي لعبه جورج سوروس من خلال استثماره المالي عدا عن استلاب ملياري دولار من أموال شعب آخر ؟ في كتابه لاحقاً قال جورج سورس إن ما فعلته في حقيقة الامر هو سرقة 2 مليار دولار من جيوب دافعي الضرائب البريطانيين. وعلى هذا المنوال كانت الهجمات الشرسة ذات طابع المضاربة على اسواق دول جنوب شرق آسيا هي السبب في المحن التي حلت بهذه الدول في الوقت الذي كانت فيه مقومات اقتصادها قوية وفي وضع صحي . وعندما تم الهجوم على عملة بلاده عام 1997 ، وصف رئيس وزراء ماليزيا مهاتير محمد هؤلاء المضاربين الماليين” بالمجرميـن الدوليين” .
اصبح واضحاً أن سياسة الغرب بالتعاون مع الحركات الاسلامية قد انتهى وان الغرب لا يرغب بأي منهج اسلامي في اي من اقطار الربيع العربي والذي تحول الى خريف قاتم . ويبدو أن تركيا وحزبها الاسلامي وقائده قد اصبحوا من غير المرغوب بهم وأن اردوغان وحزبه قد وصلوا الى هذه القناعة وأنهم يحاولون فك الارتباط مع الغرب لكن العملية معقدة جداً مع أنها ممكنة بعد معاركة طحن عظام بين النظام التركي والرأسمالي الغربي ومحاولة تركيا التوجه شمالاً الى روسيا وشرقاً الى الصين ودول اوراسيا . وسيكون لنتيجة هذه المعركة نتائج مفصلية على النظام الجيوسياسي العالمي .