كلنا متفقون أننا نعيش أحداثاً تاريخية أو حقبة تاريخية أو تحولات تاريخية، لكن لماذا نضفي على هذه الأزمنة كلمة تاريخية؟ هل لأنها ستكتب في كتب التاريخ أم لأن ما قبلها سيكون غير ما بعدها تماماً؟ أم لأن التاريخ تصوغه الحروب والدماء والأحزان، أياً كانت الإجابة فلهذه الأزمة التاريخية فائدة كبيرة وهي فهم التاريخ، أي كيف تتشكل الدول وكيف توضع الحدود وكيف تُكتب المعاهدات الطويلة.
ولعلَّ من أهم الأسئلة التي وجدت إجابة قاطعة لها هو: لماذا لم تتوحد الدول العربية؟ فقد كان هذا السؤال مطروحاً بقوة في المناهج المدرسية ولم يُجب عليه أحد، لكن جاءتنا الإجابة من واقع فصائلنا التي تسعى جميعها إلى هدف واحد معلن بإسقاط النظام، وفي الوقت نفسه تعلن أنها تسعى للاندماج والتوحد وتصرّح أن التوحد سبب لكل نجاح وانتصار، وأنَّ الشرذمة هي أساس كل فشل وهزيمة.
لكن في الواقع نرى إمبراطوريات مصغرة ترضى بالوهم الجميل وتتغذى من نشر الأوهام.
إنَّ مثل هذا الواقع كان سائداً إبَّان ما سمي استقلال الدول العربية، حيث شكّلت الدول المحتلة الحكومات العربية والدولة العميقة التي يصعب اكتشافها أو النيل منها، أو تغييرها دون زلزال كبير يدمر الدولة بأكملها ويحرق الأخضر واليابس.
والشواهد أمامنا واضحة في ثورات تونس ومصر وليبيا، حيث تولت الثورة قشرة السلطة ولامست شكلها الخارجي دون أن تمس جوهر الدولة العميقة، فكانت النتيجة عودة الدولة العميقة بكل قوة إلى السلطة واجتثاث الثورات والسعي لئلا تتكرر.
وكي نفهم كيف شكّل الاستعمار الدول العربية أمامنا تجربة وحيدة كاشفة حيث كُشِفَت كل الأوراق والمخططات؛ إنها غزة، ففي عام 2007 سيطرت كتائب القسام التابعة لحركة حماس على كل مقرات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في غزة وكل ما فيها من أوراق وصور وأشرطة فيديو وغيرها من الوثائق، وكانت النتائج مذهلة.
كانت السلطة الفلسطينية نتيجة لاتفاق أوسلو الذي قضى بإقامتها لتكون كياناً للشعب الفلسطيني ينهي معاناته ويبني مؤسساته ويحصّل حقوقه من خلال المفاوضات والعمل السياسي، دون اللجوء إلى العنف ضد الاحتلال.
ثم جاءت الوثائق بعد ثلاثة عشر عاماً لتكشف أنَّ أجهزة السلطة كانت تتجسس على الدول العربية مثل مصر وتونس سورية ولبنان، وأوصلت معلومات قيمة لإسرائيل والولايات المتحدة عن المشروع النووي الليبي، وكذلك مشروع نووي مزعوم للجزائر، ومن بين الوثائق أيضا بطاقة شكر من أجهزة الأمن الفرنسية لأجهزة السلطة لدورها في إيصال معلومات للمخابرات الفرنسية استفادت منها للتصدي لأعمال الشغب التي انتشرت في باريس سنة 2006، وكذلك صور للمفاعل النووي الباكستاني.
ولم تقتصر أعمال التجسس على الدول العربية والإسلامية، وإنما امتدت لتشمل المسؤولين الفلسطينيين الذين ورطوا بعضهم بفضائح جنسية مصورة، حيث كانوا يرسلون المسؤول في مهمة إلى مصر أو الأردن أو أي دولة أوروبية وفي الفندق تزرع الكاميرات ثم تأتي ذلك المسؤول فتاة تراوده عن نفسه وتسجّل عدسات الكاميرات المشاهد الفاضحة ليتم تهديد هذا المسؤول بنشرها لاحقاً، والملاحظ أن هذه الفضائح كانت تشمل أكثر المسؤولين الفلسطينيين.
هذا فضلا عن دور هذه الأجهزة في ملاحقة المقاومة الفلسطينية وضربها والتي تفوقت فيها على إسرائيل في إمكانياتها وقسوتها.
كل هذه يؤكد أنَّ السلطة لم تكن سوى كياناً لخدمة إسرائيل والولايات المتحدة والغرب من ورائهما، فجوهر هذه السلطة هي أجهزة المخابرات المتعددة التي تتجسس على الجميع وحتى تتجسس على بعضها خدمة لإسرائيل (وهذا يفسّر إعادة استخدام محمد دحلان أحد مؤسسي المخابرات الفلسطينية من الإمارات ضد الثورات العربية) أما في العلن فتوصف هذه السلطة بأنها وطنية وهي أبعد ما تكون عن الوطنية، أمَّا إن وُجِدَ الشرفاء فهم على السطح بعيداً عن القاع حيث يُصنع القرار وتُحاك المؤامرات.
ومن ومضة الشرر هذه في الظلام يمكننا استنتاج كيف أنشِئت الدول العربية حقيقةً؛ فكل مؤسسات هذه الدول محكومة بمصالح الدول التي تديرها في الخفاء وهكذا، فالتعليم في الدول العربية محدود ولا يسمح له بتخطي حدود معينة، والجيوش العربية مصممة للاستعراضات العسكرية أو للدفاع عن الحاكم، أما أجهزة الأمن فمهمتها إخضاع الشعوب العربية ونشر الأمن الناتج عن اليأس والعجز والخنوع، فيما تظل المخابرات هي الأجهزة الأغلى التي تتنوع مهامها وتزداد أهمية، حتى بدأت تتضخم وبدأ مسؤولوها يتولون السلطة الكاملة مثل السيسي.
إنَّ دولاً أنشأها الاستعمار لا يمكنها خدمة أهداف شعوبها، فلا تنمية ولا كرامة ولا تحرير ولا عدالة اجتماعية، فهي مصممة لخدمة أهداف صناعها ولن تخدم سواهم، ولن يبدأ أي تغيير حقيقي إلا باجتثاث هذه الدويلات الوظيفية تماماً.