محمد زايغ | رئيس التحرير السابق لصحيفة حبر
ما زلتم تبحثونَ عن المقالة الصادقة -وما أقلَّها – وتستفسرون عن هويتها وعنوان بيتها، وتسألون عن لون عينيها وهوايتها وأصدقائها، وتتبعون آثارها كما يتتبع الماشي في القِفار أثرًا من آثار الماء، وقد رأيتم من بعيدٍ وأنتم في الطريق جداولَ وأنهارًا حتى إذا وصلتم إليها لم تجدوا غيرَ أرضٍ يبابٍ وجعجعةٍ بلا طِحْن.
المقالة الحقيقية هي التي لا ترضى أن تجلسَ على كرسيّ المكياجات، ويصعب عليها أن يكون لها لسانان أو صوتان أو وجهان، لأنّها ليست مهرّجةً في سيركٍ تتغيّر فيه الألسن وتتبدل الأقنعة وتختلط الأصوات، إنّها تشبه الحمامةَ البيضاء التي تريد أن توصل رسالتها على الرغم من حرارة الجوّ وعلى الرغم من برودته، وما أكثر الصيادين!
وإنَّ المقالةَ التي تأكل رسالتها عندما تجوع هي جرادةٌ خاضعةٌ إلى ألف عمليةِ تجميل، وربّما يأتي يومٌ تأكل فيه أولادها أو نفسها، وما أكثر الجرادَ الذي يقفز من صحيفةٍ إلى أخرى، يقدّم للناس الحصرم موهمًا أنَّه العنب!
ورسالةُ الكلمة الحقيقية هي أن تغيّر وتعيدَ ترتيب الأشياء المبعثرة في داخلنا، وأن تحرّكَ المياه الراكدة في نفوس قارئيها، وتمسكَ بأيديهم وتقطع الشارع معهم للوصول إلى الحقيقة، جميلٌ أن تتعامل الكلمةُ مع أحبائها كما تتعامل الأم مع أبنائها، فتوقد لهم في الشتاء مدفأة، وتنسج من صوف حروفها قبعاتٍ ملونة.
وإنّكم تتساءلون: ما فائدة المقالة إن لم تستطع أن تسمع صوتها وتشعر بحضورها على شفاه قرَّائها؟ وماذا نرجو منها إن بقيت مئةَ سنة تتنقل من محطة الخوف إلى محطة الصمت بلا قيمة تحملها أو قضية تضحي من أجلها؟ لا شكَّ أنَّ نقودها ستنفد عند إحدى المحطات، ولن تقدر على أن تدفع تذكرة ركوبٍ جديدة، وسيطلب منها العمُّ المفتش أن تطويَ نفسها وتدخل سلّة القمامة مع ألف من صويحباتها اللواتي يعرجنَ في شوارع سوريتنا ومدنها وقراها وحاراتها كل يوم.
أسوأ المقالات تلك التي تعرج أمام القراء لتستعطفهم، وتجلس على أرصفة المتسولين تنتظر من المارة أن ينظروا إليها وينصتوا إلى صوتها وهي تنشد الأناشيد المقرفة، والتي تعمل في جوقة تردد فيه ما يُملى عليها، وتضع غشاوة على عينيها ، فتتحول إلى حمارٍ صغيرٍ ينتظر من فارسه الدونكيشوتي إملاءَ العِنانِ وتوجيهاته، والأشد سوءًا منها هي تلك التي تبحث عن مكانٍ بين الماء والنار، بين الحق والباطل، مع العلم أنَّ المقالةَ الحقيقية لا تحبُّ الحياد ولا تؤمن به، ولذلك إنْ زرتم يومًا الصحافة الحرّة وتجولتم في أرجاء حديقتها وفتحتم خزانة ملابسها فلن تجدوا بين أشيائها اللون الرماديّ .
وليس هناك أمرٌ متعبٌ كالتعامل مع المقالة الحقيقية أو الدخول في تفاصيل حياتها والتدخل في خصوصياتها، إنّه أمرٌ مرهقٌ فعلًا وممتعٌ في الوقت نفسه، وقد يحسب الكاتب الغِرُّ أنَّ المشيَ معها رحلةٌ رومانسيةٌ لشمِّ الهواء وقطفِ الورود وأخذِ الصور التذكارية، فترونه قبل أن يمسكَ بالقلم، يضع نظاراته الصيفية ويحضر أدوات الصيد واللهو، ثم يتفاجأ بالعاصفة تهجم كالذئبة الجائعة نحوه، والمطر ينقر كالديك الهائج رأسه، ورائحة البارود تتسلل إلى أعماق أعماق رئته. لم يعلم صاحبنا أنَّ الكتابةَ ليست وظيفةً فيها كرسيٌ وطاولةٌ وورقةٌ وقلم، إنَّها مشوارٌ تحت المطر وطريقٌ مليءٌ بالمفاجآت، ولا أحدَ يعرف متى ينتهي الطريق وكيف تكون النهاية…