بقلم : ابن الربيع الحلبيمنذ أعوام عِدّةٍ يظهرُ في الإعلام احتفالاتُ الإسبان بانتهاء حكم الإسلام للأندلس، وهي احتفالات محكومة بآلة إعلامية لا تحارِب إلّا الإسلام، ولو لم تُظهِر ذلك إلّا في زوايا ضيقة أو على ألسنة أبناء الإسلام أنفسهم.وتُذكِّر هذه الكلمات بما جرى قُبيل انحسار الإسلام عن الأندلس لتُحَذّرَ من أنّ تكرُّرَ الخطوات التي أودتْ بها، سيعني تكرُّر النتيجة. ولكنّ المكان مختلف هذه المرّة فهو مهدُ الرسالات وقلبُ الإسلام (الشام).فمنذ فُتِحَت الأندلس كان الإسبان مصمّمينَ على استردادِها، وكانَ على المسلمين أن يكونوا مهيّئين دائمًا لمواجهتهم، ولذلك وُسِمَت الأندلسُ بأنها أرض الجهاد.وهذه شهادات بعض أهلها فيها:1- لسان الدين ابن الخطيبِ: الأندلس هي: “الوطن القلقُ الـمِهاد الذي لا يصلحُ إلّا للجهادِ”.2- النبهاني: “ولو لم يكن لهذهِ الجزيرةِ الفريدةِ من الفضيلة إلّا ما خُصّت به من بركة الرباطِ ورحمة الجهادِ لكفاها فخرًا على ما يجاورها من سائرِ البلادِ”.3- ابن خاتمةَ: “ومتى تُوازَنُ الأندلس بالمغربِ، أو يُعوّض عنها إلّا بمكةَ أو يثرب؟ وما تحتَ أديمها أشلاءُ أولياء وعُبَّاد، وما فوقَهُ مرابطُ جهاد ومعاقدُ ألْوِيةٍ في سبيلِ الله ومضارِبُ أوتاد”.وكما وُسِمَتِ الأندلس وسمت الشام وكلُّ بُقعة دخلها الإسلام، لأنّ شُغلَ أهلِ الكُفر الشاغلَ هو محاربة الإسلام حيث حلّ، فقد أُعلِن الجهادُ في الشام منذ قال عِبادُ الله: “لبيكَ يا ألله”، وقابَلَها عِباد خنزير الشام بقولهم: “لبيك يا بشّار”-مهما برّرَ لهم المبررون بأنهم قالوها دفاعًا عن الوطن-وما يزال جهادُهم مستمرًّا تحت راية التوحيد التي لا ينصرُ اللهُ إلّا مَنْ ينصرها.بدأ الصليبيون يجتاحون مُدُنَ الأندلس -في آخر عهدِها بالإسلام- واحدةً واحدة. ونكتفي من ذلك بنكبة بربشتر (456هـ): شمال شرقي سرقسطة التي سقطت على يد (النورمانديين) الذين أتَوا من الشمالِ الغربي لفرنسا وهاجموا سواحلَ الأندلسِ الغربيةِ، ونشروا في هجومهم الذُّعرَ والفزعَ حيثُ حلّوا، كبراميل الموت التي يتباها بها خنازير النصيرية وأتباعهم. حاصر النورمانديون بربشتر فاضطُرَّ أهلها إلى التسليمِ لنقص القُوْتِ والمؤونة –كما حصل في عدة مناطق من أرض الشام ومن أشهرها حمص– ففتكوا بالأندلسيين، ونكّلوا بهم تنكيلًا شديدًا، وهتكوا الأستار والحُرماتُ، وسَبَوا عددًا كبيرًا من فتياتهم وغِلمانهم، وأميرُ سرقسطة المقتدر قد وكَلَهم إلى أنفسهم، وقعدَ عن نجدتهم، وكذلكَ غيرُهُ من ملوكِ الطوائفِ. وكذلك حال كلّ ملوك ورؤساء وأمراء ووجهاء العالم المدَّعين الانتسابَ للإسلام ولكن لا يجرؤون على مناصرته كي لا يستجلبوا عداء الكفار على أنفسهم.وقد كتبَ ابن عبد البرّ رسالةً على لسانِ أهلِ بربشتر -مستثيرًا هِممَ المسلمينَ- كانت في شكلِ منشورٍ وُزِّعت في مدنِ الأندلسِ. وهذه قِطَعٌ من رسالته يمكن لأيّ متابع لأحداث الشام أن يراها كأنها عن الشام لا عن الأندلس. يقول في بعضها:- “ونُنْبِئُكم بعضَ ما نَابَنا في ثغورنا عسى أن تكونوا سببًا لنصرتنا، فالمؤمنون إخوةٌ، والمرءُ كثيرٌ بأخيه”.- “وفَشَتِ المنكراتُ، وقد سيقتِ النساءُ والولدانُ ما بينَ عاريةٍ وعَرْيان، قَوْدًا بالنواصي إلى كل مكان، ومشيخةُ الرجالِ مقرَّنينَ بالحبالِ”.– “ومصاحفٌ تُمَزّق، ومساجدٌ تُحرَّق… والجوامعُ والصوامعُ بعد تلاوةِ القرآنِ، وحلاوة الأذانِ مُطبِقةٌ بالشِّر والبهتانِ، والكفرُ يضحكُ ويُنْكِي (يقهر)، والدينُ ينوحُ ويبكي”. وهذا ما يراه كل العالم في المساجد التي يجتاحها خنازير الروافض والنصيرية.– “ولولا فَرْطُ الذنوبِ لما كان لريحهم علينا هبوب، ولو كان شملُنا منتظمًا، وشِعْبُنا مُلتئمًا، وكنَّا كالجوارح في الجسد اشتباكًا لما طاش لنا سهم. ولا رُوِّعَ لنا سِرب”. وهذا أيضًا يحصل في الشام من تفرق كلمة المجاهدين رَغم اتفاق الغاية ولا غاية إلّا إعلاء كلمة الله كما أمر الله وحده لا شريك له.– “فالحذرَ الحذر، وجاهدوهم في ثغورهم قبل أن يجاهدوكم في دوركم، ففينا مُتَّعِظٌ لـمَنِ اتّعظ”. يا شعب اليمن ومصر والعراق وتونس وليبيا والمغرب والسودان ودويلات الخليج.– “وأنتم عنّا لاهونَ، في غمرة ساهون، ولقد آنَ أنْ يُبصِر الأعمى…، ويستيقظ النَوْمان، ويَشْجُع الجبان”.وقد حصلتِ -في الشام كما الأندلس- المجازرُ والاستغاثات، ثم الحصارات الخانقة وانعدام النجدة من أحد…وتلك الأيّام نداولها بين الناس، وتلك أرضٌ تحِنّ لروح الإسلام كما تحِنّ له الدنا كلُّها. تلك الأندلسُ مثالٌ كوضوح الشمس في السماء الصافية على عزّة الإسلام وعدله بين بني البشر.لم تنعم الأندلس في تاريخها بما نعِمتْ به حين حكَمَها الإسلام. وفي تلك القطعة من جسَد الأمة المسلمة بدأ أعداء الإسلام الهجومَ الصليبيَّ الجديد انتقامًا لفتح عاصمتهم العُظْمى (القسطنطينية) على يد جيش الإسلام. وما زلوا يستميتون في محاولاتهم القضاءَ على الإسلام فيها إلى أن مكّنهم مُسلمو ذاك الزمن من غايتهم.مكّنُوهم لأنهم ركنوا إلى الدنيا ورضوا بها من الآخرة. وأخشى أنْ تدول الدولة علينا ونحن في غفلة عن الاعتبار بما كان فتتكرّر الفاجعة.فكثيرٌ من أسباب فشلِ المسلمين حينها مُتغلّبٌ في حياتنا الآن، وفي المقابل فإنّ استماتةَ أعداء الإسلام ما تزال تزكو وتستمد أُوارها من أهم أسباب فشل المسلمين (الجهل).وما أقبح الجهلَ فيمن يُفترض فيه العلم! وما أقبح جهل المسلم حين يكون جهلًا بالإسلام عينه. فما مسلمٌ عَلِمَ الإسلام يُغَلِّبُ غيرَه في حياته مهما عَظُم هذا الغير، ولا يتأتّى له ذلك. والعلم يتنافى مع أي منهجٍ -في السياسة العالمية -سلَكَه المسلمون منذ ضاعت الأندلس، وسيطر عليهم أعداؤهم بأشخاصٍ روّجوهم على أنهم أهلُ العلم بالإسلام (ولو كانوا في كثير من الأحيان من النصارى أو اليهود كنيتشة وميكافيلي وغيرهما ممَّن يرى أنّ الدين أفيون الشعوب، أو أنّ الدين لله والوطن للجميع…)، وحاربوا بهم أهلَ الإسلام الحقِّ بحُجَجٍ مهما تغيّر رسمهُا إلا أنّ روحها واحدة، وغايتها واحدة. وهي القضاء على نور الله في الأرض. ولكنّ الله مُتِمُّ نوره ولو كَرِهَ الكافرون.كلُّ ذلك بدَأَ مع سقوط الأندلس. ومعظم ما حصل في ثنايا سقوطها يتكرّر اليوم في ساحة الشام التي تسقط شيئًا فشيئًا في يد أعداء الإسلام بكل أشكالهم. ولا جواب لهم في الإسلام إلّا ما يحبه الله من عباده: “إنّ الله يحبُّ الذينَ يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيانٌ مرصوص”. وما هذه إلّا تذكرة بما يحبه الله ويرضاه لعباده