الإنسان بطبيعته وحش عاقل كالبحر، حيث يبدو للإنسان في الربيع كائناً وديعاً مسالماً، يُسعد بمنظره الجميل المستلقين على شاطئه بحثاً عن الراحة ودفئ الشمس.
هذا الوجه الوديع للبحر لا يخدعه في نفسه إذ خدع ناظريه، فهو قد عرف ذاته في عمقه إذ تشتدُّ الريح ويموج بمن فيه أنه ليس بمؤتمن البتَّة، ولْتسألْ إن شئت عن وجهه الحقيقي كلَّ تلك الجثث الراقدة في قاعه.
البحر ما هو إلا صورة مصغَّرة عنك أيها الإنسان، فهناك في داخلك وحشيَّة قابعة بصمت، قد تكون لم ترها وجهاً لوجه من قبل لكنها موجودة، وهي أخطر عدوٍّ يترصَّدُ إنسانيتك بسوء، بل إن داخلكَ حيوانيَّة لو أُتيح لها أن تطلق العنان لِما تشتهي لوجدتَ أنها أخسُّ ما يمكن أن تُخْبَره عن حيوانيَّة، إذ لا يدنينَّها غير شياطين الإنس الأبالسة؛ ولربَّما قاربتهم.
هذا التوحش الذي في داخلك يخجل من قبحه لذلك فهو يتخَفَّى ويبتعد عن الأضواء ما دام هناك عين تُقيِّمُه، فإذا خلوت بما يستميل ذلك التوحُّشَ هجمَ على حياتك ليشوِّها ويدنِّسها كأنَّه فجعانُ مآسٍ.
السذّج من الناس ينعمون بحياة هادئة ما كانت حيوانيَّتهم مختبئة ويحسبونها لذلك معدومة؛ فلا يقومون إزاءها بأي عمل، وهي تلك اللحظةَ تكون جالسةً تتفكَّه بعد أن أُسْمنت بوجبةٍ دسمةٍ من الإهمال.
ما أهون من لا يسارع إلى مواجهة حيوانيَّته وكبح رغباتها بل يأمن على ذاتِه بالتسويف حتى تعظم حيوانيَّته ولا يستطيع الوقوف في وجهها عند ذلك.
ولْتتصوَّر أخي فرغلاً صغيراً -والفرغل صغير الضبع- يطوف حول مزرعة امرئ فُوجئ به، ثم لم يقم بأي بادرةٍ تجاهه لأنه لا يقوى على فعل شيءٍ، ودارت الأيام وما عاد ذلك الإنسان يرى الفرغل فاستقرَّ في لا وعيه أنه فَنِيَ أو ما عاد يهتدي السبيل إلى مزرعته، والواقع أنه كان يتغذى ويعظم نفسه في حرش قريب، ولأن الجوع يأتي بغتة خرج ذلك الذئب صوب المزرعة يريد الغذاء.
وبينما كان صاحب المزرعة مضطجعاً يعدُّ النجوم إذ أصاب شعرَه بللٌ والسماء ما بها غيوم، فاستدارَ وإذ بلعابٍ يسيل من بين أنياب ذئبٍ واقف عند رأسه، فهل ينفع عند ذلك الندم؟
نفسك التي بين جنبيك كالذئب، إن لم تتعامل معها مبكِّراً بغتتك بأنيابها، فهلا سللتَ الهمَّة ورحتَ تروِّضها وتهذِّبها؟!
إن الحيوانيَّة متأصلة فيك، غير أن ذلك لا يبرئك من خطاياها، فلقد أعطيتَ إرادةً يا أخي فماذا أنت فاعل بتلك الإرادة؟
عليك ملاحظة توحشك فملاحقته والتهذيب، ودعْ عنك جلد ذاتك إذ ترصده، ذلك أن حرباً قد ابتدأت، وما كسِبَ أحد حرباً دخلَها بدعسِ نفسيَّته.
أرى في أنات حلقومك أسئلةً تبحث عن إجابات، دعني إذاً أسأل عنك فأجيب، يا ترى ما هيَ ماهية تهذيب الحيوانيَّة التي عنها يُتكَلَّم؟
إنه لا ضبط لحيوانيَّة إنسانٍ ما لم يكن ذلك الضبط منبثقاً عن خشية الله تعالى ومن علاقةٍ به روحانيَّةٍ وشرعيَّة، وأي ما خلا ذلك وهمٌ زائل.
للأسف فإن كثيراً من الناس يتعامل مع الشريعة بشكل ظاهري فقط، لأنه ليسَ صادق في التعامل أو هو يبحث عن أقصر الطرق حتى ولو كانت غير موصلة، لكن لا تقنط إذ تستعرض تلك الأمثلة، فالحياة لم تعدم الإيمان العميق بعد، لكنه يقرُ في قلبٍ لا محالةَ يتعرَّض لزلازل، تزيل ما علق به من دنس الحياة، وترقِّيه بعد أن تزكِّيه الدرجات، مثل ذلك القلب وحده من يستوعب كُنه الشريعة السماويَّة التي جاءت لتضبط وتصغر حيوانيَّة الإنسان.
لذلك كن بروح الشريعة وبأحكامها إنساناً يا أخي، لا ترغب عن زلازل الحياة وتحدِّياتها بحثاً عن دوام يُسْر الحال، إذ ليس من يسرٍ يدوم، واجِهْ قبلَ أن تُواجَه، وتذكَّر دوماً أنك قادر على كبح ذلك التوحُّش داخلك، وعندها ستظلّ تسمو والأنفاس تتتابع.