جاد الغيث
بعدما يقارب ست سنوات من القتل والرعب والتدمير، خرجوا بثيابهم وبعض ذكرياتهم مقهورين، قلوبهم مليئة بالأسى، وفي حناجرهم أصوات مخنوقة للمعذبين والمفقودين، وعلى وجوههم ابتسامات مضجرَّة بالدماء، تخفي بين تجاعيدها وجوه الجرحى والشهداء.
نعم، خرجوا سالمين، وبكوا طويلاً على أطلال حلب، وقبَّلوا جبينها العالي قبلة الوداع الأخيرة، لا موت أشدّ من ذلك الموت؛ فالخروج من حلب أشدّ وأصعب من خروج الروح، ولكن البقاء فيها أيضاً أشدّ وأقسى من ألف جرح، وألف رعب، وألف موت.
وصلوا سالمين وكان في استقبالهم عند مدخل الراشدين أخوة محبون، كانوا طوال شهور يدعمونهم بالدعاء والصلاة لهم من أجل البقاء، لا شيء أكثر من ذلك
(فالعين بصيرة واليد قصيرة)، وقد قُطعت كلُّ السبل للوصول الى حلب الشرقية، ولم يسلم من القصف والقتل في الوقت نفسه سكان ريف حلب المشتاقين لإخوانهم المحاصرين.
جاؤوا إليهم من كلِّ الأرجاء، وفي قلوبهم فيض حبٍّ وعطاء، قاسموهم الدار والطعام والدفء بعد أن كان الثلج الأبيض معطفهم، والقهر مرافقاً وفياً لكلِّ تفاصيل رحلتهم.
رحلة عذاب وكأنَّها مشهد مصغر لقيامة صغرى، ولكن من عبروا إلى مناطق النظام كان عذابهم أشدّ وأقسى.
خوفهم من الاعتقال لا يدانيه خوف، ومصيرهم المجهول يشبه من يرمي نفسه ببئر لا قرار له، وفوق كلِّ ذلك قُصفوا بطائرات النظام، فبعضهم مات على المعبر، والبعض الآخر تابع الطريق وكأنَّ من قُتِل بجانبه عدو وليس أخ أو أب أو صديق. كان على الجميع أن يرحلوا ليلاً في مسيرة تستغرق ست ساعات من العذاب تعادل ست سنوات من الحرب، وأن يمروا فوق جثث القتلى لتموت آخر ذرة تعاطف في إنسانيتهم، وليذوقوا مرارة الذل والقهر وهم يعبرون إلى قاتلهم، وحين يصلون لا بدَّ لهم من أن يرفعوا صوره ويسجدوا بأقوالهم له، ويسبوا إخوانهم الإرهابيين، ويتباكوا أمام أعين العالم لأنَّهم كانوا جائعين خائفين!!
ذل لا منتهى لتصوره، وليس من كلمات مناسبة للتعبير عنه، فماذا تقولون عن ابن تجاوز العشرين يترك أباه ميتا في طريق المعبر ويعبر! وعن أم سقطت ابنتها أمامها برصاصة قناص فأسرعت وتركتها وحيدة! ربما تمنَّت الأم الموت لابنتها، ولكنَّها لم تمت وصارت صورها عاراً على إنسانية أمها، حيث نشر النشطاء اسمها وصارت يتيمة المعبر.
هي في مكان وأهلها في مكان، إنَّها ليست يتيمة، وإنَّما هي طعنة أليمة في قلب كلِّ من تبقى ليروي بعد الحرب آلام الناس وعذابهم.