إسلام سليمان |
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا؟
في قيظ زمان الحروب والاضطهادات والظلم الواقع على بلاد المسلمين، وفي زمن تعاظم فيه عدد المهاجرين والهاربين من بلادهم، مخلفين وراءهم دياراً آوتهم لسنين، وذكريات دفنوها في خبايا الذاكرة وثناياها، وماض أوصدوا الباب عليه بإحكام، ليبدأوا حياة جديدة في بقعة أخرى من بقاع أرض الله الواسعة..
تبدأ مفاهيم الإنسان بتحويل دفتها بحثاً عن جهة تُطمئن قلب صاحبها، وتجعل منه إنساناً فاعلاً أينما حلّ، لا تقلقه هواجس وهمية تعرقل طريقه، ومن أكبر هذه المفاهيم مفهوم الوطن.
ما هو وطن المسلم الحقيقي الذي ينتمي إليه ويضحي بكل ما أوتي من مال وقوة في سبيله؟ أهو مسقط رأسه الذي ترعرع فيه؟ أم عائلته وعشيرته التي يشترك معها بقرابة الدم؟ هل هو المكان الذي يكون فيه منتجاً؟ هذا وغيرها من أسئلة تدور في فلك عقل المسلم لتستجوبه عن انتمائه الحقيقي في هذه الدنيا.
وفي موقف الاستجواب المحرج هذا، لا نجد مرجعاً صادقاً سوى سيرة المسلمين الأوائل، فهم من شيّدوا صرح الإسلام وأساسه، ولنا في سيرتهم خير أسوة..
نراهم في دارهم الأم مناضلين وصامدين، لكن في سبيل ماذا؟ بالتأكيد لم يكن في سبيل ملك فانٍ، أو في سبيل أن تبقى هذه الديار لهم، لا، بل كان دفاعهم ونضالهم في سبيل عقيدة اعتنقوها وتشرّبوها فباتت في عروقهم كمجرى الدم فيه.
إذاً فأول مفهوم نتوصل إليه، دفاعهم عن قضية وعقيدة وليس عن أرض أو مال، وماذا بعد هذا؟ هل حاربوا المشركين والكفار إلى آخر رمق لهم في ديارهم هذه مستميتين البقاء والموت فيها؟ لا طبعاً، بل لآثروا عقيدتهم التي يؤمنون بها على أهلهم ودارهم وملكهم أيضاً مهاجرين إلى بلاد أخرى ليعيشوا أحراراً بدينهم وفكرهم، لأن الآخرة هدفهم الأسمى، وهنا نتوصل للمفهوم الثاني الذي يخبرنا أن المكان الذي لا تستطيع فيه الحفاظ على عقيدتك ودينك، وستعيش مضطهداً مظلوماً فيه، فلتهجره بحثاً عن مكان آمن تواصل فيه العمل على أداء رسالتك في الحياة.
وبعد الهجرة، استقر الرسول وصحبه في الدار التي استقبلتهم، ولم يكن هدفهم بعد التمكين في الأرض والنصر الرجوع إلى مسقط رأسهم ليعاودوا العيش فيه، بل على النقيض، فبعد النصر المؤزر بفتح مكة، آب الرسول إلى المدينة، وواصل دعوته فيها إلى أن انتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى بعد أن أدى الأمانة الموكلة إليه.
إذاً فالمسلم لا تقيده أموراً مؤقتة زائلة، فدين الإسلام يكسبه هوية وجنسية تغنيه عن أرض قد يُطرد منها يوماً ما، أو قبيلة قد تتبرأ منه، أو حكم قد يظلمه ويطغى عليه، “فعقيدة المؤمن هي وطنه، وقومه، وأهله.. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ ومرعى وقطيع وسياج” كما قال الشهيد سيد قطب مرة..
وجهاد المسلم ودفاعه يكون عن عقيدة الإسلام التي تشكل مبادئه وقيمه وتسكن روحه وتوجه سلوكه، فينال بهذا شرف الاستخلاف في الأرض بعد تشربه معاني هذه العقيدة، وتتحقق لديه القدرة على إقامة العدل والطمأنينة، ودفع الظلم والجور، والقدرة على الإصلاح والإعمار، ودرأ الهدم والفساد، ليكتمل بذلك دينه الذي ارتضاه خالقه له ولسائر المؤمنين، ويبدلهم بعد خوفهم وهزيمتهم أمناً ونصراً..
فالانتماء الحقيقي يكون لشيء ثابت لا يتغير، وانتماء المسلم يكون لخالقه أولاً، ومن ثم لدينه القيّم.
فماذا عنا نحن الذين خرجنا من بلدنا الأم لظلم لاقيناه، وجور وقف حائلاً بيننا وبين أداء دورنا كخلفاء الله في الأرض؟ ما هو مفهوم الوطن بالنسبة إلينا نحن المسلمين؟ هل ما زال الدار التي نشأنا وترعرعنا فيها؟ أم أنه أمر أعمق من هذا بكثير؟