فقدت سورية الإمام العلامة المفسر، المحدث الحافظ الفقيه، الأستاذ الدكتور نور الدين عتر الحسني، الحنفي مذهباً، الحلبي مولداً، نزيل دمشق، ذو السبق في علوم الحديث النبوي الشريف روايةً ودرايةً في مجالات التدريس والتحقيق والتأليف، سليل أسرة علمية عريقة في التقى والصلاح، راسخة في علوم الشريعة والحقيقة.
ولد الأستاذ الدكتور نور الدين عتر في حلب الشهباء عام 1356هـ، الموافق 1937م، وكان والده (الحاج محمد عتر) من خواص تلاميذ العلامة الجليل الإمام الشيخ العارف بالله محمد نجيب سراج الدين، وكان الحاج محمد عالماً عاملاً مربياً مرشداً، وقد نذر مولوده لخدمة دين الله تعالى، وهيّأ له الأسباب، فأتم الله تعالى ذلك بلطفه وجوده.
درس في الثانوية الشرعية (الخسروية) وتميز بالتفوق والسبق في العلم والعمل من وقتها، حصل على الشَّهادة الثَّانوية الشَّرعية عام 1954م حائزاً الرتبة الأولى، ثم التحق مباشرة بجامعة الأزهر في مصر، حاز الليسانس عام 1958م، وكان الخريج الأوَّل على دفعته.
توفي “نور الدين عتر”، في مدينة دمشق جنوبي سورية، اليوم الأربعاء 23 أيلول، عن خمسة وثمانين عاماً، ورغم بقائه في مناطق سيطرة نظام الأسد إلا أنه لم يؤيد جرائمه وكان مع الثورة بشكل ضمني بحسب ما نقلت مصادر مقربة منه.
ونعاه “المجلس الإسلامي السوري” التابع للمعارضة السورية في بيان له، حيث عزّى أسرته وطلابه.
يذكر أن الدكتور “نور الدين عتر” عمل خبيراً مختصاً لتقويم مناهج الدراسات الجامعية الأولى ومناهج مرحلة الدراسات العليا في جامعات متعدِّدة في العالم الإسلامي، كما أشرف على عشرات الأطروحات الجامعية من دكتوراه وماجستير، وهو محكَّم لبحوث الترقية لمدرّسي الجامعات، وعرف بدقته الشديدة في تحكيمه.
كتب عنه ابن أخته الأستاذ عبد الله عتر:
رحل العلّامة المحدث المفسر والفقيه الأديب المربي المجدد الأستاذ الدكتور “نور الدين عتر”.
العزاء في هذا اليوم لأمتنا المسلمة -وحلب ودمشق خاصة- أن تركها أحد أعلامها الكبار في العلم والفهم والأدب وصفاء الروح والتواضع الجم والكرم المدهش ومناصرة المظلوم ومساعدة المحتاج والحنو على الضعيف والعمل الموصول بالعلم.. يعرف تلك الخصال كثيرون ممن عايشوه أو التقوا به، يكفي أن تجلس معه مرة واحدة لترى كل ذلك، فكيف إذا كانت تجمعك به صلة قرابة وأن تكون ابن أخته، حيث تراه على طبيعته التلقائية فلا تميزها بشيء عن ظهوره أمام الناس..
رجل يجسد “الصدق” في الحياة والمصداقية في القول والعمل والضمير.. يعرف ماذا يريد تماماً.. متصالح مع نفسه وأمته ودينه وعصره.. شجاع لم يداهن ظالماً.. لم يسمح لفرصة أن تمر أمامه إلا ونافح فيها عن الحديث النبوي والقرآن الكريم بروح تجديدية دقيقة تنغمس في قضايا الحاضر والعالم الراهن..
تقبله الله في جنان الخلد.. وأراه ما كان يسعى لأجله ليلاً ونهاراً.. وجمعه بحبيبه الذي كانت تفيض عيناه ويخفق قلبه حين يتكلم عنه.. ويردد بصوته المتعب في آخر حياته: “صلى الله عليه وسلم”.
إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن وإنا على فراقك يا أستاذ الأجيال لمحزونون.. ولا نقول إلا ما يرضي ربنا..
…………………………………………..
أسس منهجية علمية معاصرة لفهم وتجديد التفكير النقدي لدى علماء الحديث في كتبه “منهج النقد” و”أصول الجرح والتعديل” و”شرح علل الترمذي”، ثم فتح حقلاً تطبيقياً كبيراً أعمل فيه منهجيته لدراسة أحاديث الأحكام رواية ودراية في عمله الموسوعي المشهور “إعلام الأنام”، ثم فتح ظلالاً جديدة في العمق الأدبي لكلام الرسول من خلال كتاب “في ظلال الحديث النبوي”، في تلك الأثناء كان القرآن الكريم محطاً لعبقريته فكتب في “علوم القرآن” وتعمق أكثر في البعد الأدبي القرآن في كتابه “القرآن والدراسات الأدبية”، وتوقف طويلاً مع أحكام القرآن في كتابه “آيات الأحكام تفسير واستنباط”.. إنه رجل المنهجيات والتطبيقيات..
كان الميدان الفكري والاجتماعي في صلب اهتمامه، فكان له موقف صلب ضد ظلم النساء وكافح في أطروحاته ومواقفه العملية لتمكين المرأة من حقوقها وأداء دورها في بناء المجتمع والحضارة، وكتب كتابه الأثير “ماذا عن المرأة”، وكانت العبارة التي تلخص موقفه والتي كان يرددها في الأوساط الاجتماعية والعائلية: “المرأة والرجل شريكان”.
توّج رؤيته الفكرية في كتاب أراده أن يكون مغموساً في المستقبل، سمّاه: “فكر المسلم وتحديات الألف الثالثة” طرح فيه آراءه حول السلام والحرب، ومفهوم الحريات، وعلاقة الإنسان بالطبيعة والبيئة، والاقتصاد وقضايا المجتمع والمذاهب الليبرالية والشيوعية والاشتراكية، وعالج قضايا فلسفية تتعلق بمغزى الحياة وحكمة الخلق ووجود الشر والعدالة الربانية وغير ذلك من قضايا الفكر والحياة. وطرح قضية العلوم والقرآن في كتابه: “كيف تتوجه إلى العلوم والقرآن الكريم مصدرها”،
هذه بعض الكتب إضافة للكثير من المقالات والأبحاث العلمية، تتلمذ على يديه الألوف من طلاب العلم والمختصين في العلوم الإسلامية والاجتماعية.. من العرب والأتراك والهنود والأوربيين والأمريكان والروس ومسلمي شرق آسيا.. وأشرف وحكّم الكثير جداً من رسائل الماجستير والدكتوراة والأبحاث المحكّمة..
أوجه تعزية خاصة لأستاذي الدكتور “محمود مصري” حيث تربطه معه بنوّة في العلم والروح والصحبة..
وكتب عنه أيضاً الشيخ مجد مكي: