صوت قادم من مئذنة الجامع القريب ينعي وفاة أحدهم مجدداً.. حدث متكرر يومياً أصبح جزءاً لا يتجزأ من يومك، كأنه يخبرك أن لا مهرب من الموت أبداً، فهو دائماً من وراءك محيط.. كأنه يرقبك بعين ساخرة من سذاجتك التي تجعلك تظن أنه بابتعادك عن نشرات الأخبار والصحف لن تزعج سمعك بأخبار ضحايا الموت، وأنه باستطاعتك البقاء غارقاً في هذه الدنيا كما تشاء، كأن الموت لن يطرق بابك يوماً ما أنت أيضاً!
كلُّ هذا لا يهم، فقضية الموت ليست على الإطلاق قضية الميت، إنها قضية الباقين، قالها الراحل غسان كنفاني مرةً، المسكين هو الآخر كان أحد ضحايا الموت.. مسكين! ربما نحن المساكين، فهو أدرك معنى الموت، ولو لم يدركه لمَّا قال جملته هذه التي قد عمرّت أكثر منه. أما نحن الغارقون في ملذاتنا وشهواتنا، رغم وفاة أقرب الأشخاص إلينا أحياناً، لا نعتبر ولا نتّعظ من الموت، ونستبعد كل تفكير أنه سيأتي حينٌ نُنعى فيه نحن أيضاً، ربما من مئذنة الجامع نفسه الذي كنا نتجاهل صوته في كلِّ مرة!
أصبح الموت أبغض الأمور إلينا، بدل أن يكون العكس، حتى بدا التناقض علينا حين نهذي أحياناً بوعي أو دون وعي متمنين لو أن للموت نهاية، أو ربما ترانا ندعو على الموت بالموت! تناقض هو، أو محاولة إنكار وتجاهل له لا غير..
وما الذي نتوقعه أكثر من هذا حين تصبح الدنيا في قلوبنا لا بأيدينا؟! وحين يتملكنا حُبُها فتصيب أعيننا غشاوة تمنعنا عن رؤية ما بعدها.. لتصير الفرائص ترتعد مجرد ذكر اسمه.. ويصبح الشحوب والانزعاج أول الملامح التي تبدو علينا مجرد حلول الموت بيننا، كأن بيننا وبينه عداوة.. كأننا نقول له دائماً: لا تأتي فنحن لسنا على استعداد للقاء ربنا، في حين يجب أن تكون هذه غايتنا الأولى والأقرب إلى قلوبنا كمؤمنين، فنحن أصحاب دين لا يتوانى أفراده أو يتكاسلون البتة عن العمل والجهاد، فقد علَّمنا عليه أفضل الصلاة والسلام أن لا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه..
هكذا كنا، وهذا ما كان يجب أن نكون عليه اليوم، لكن الوهن والعجز أصابنا، وفضلنا دنيانا على آخرتنا، وأصبحت كراهيتنا للموت باديةً، وأصبح كلٌّ يعمل على شاكلته، لكن لا ضير، فكلٌّ سيُبعث على ما مات عليه أيضاً.. وكلُّ نفسٍ ذائقة الموت، لكن لن تكون جميعها ممَّن قيل فيها: يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية، هي دائماً فئة قليلة من الناس ميّزها خالقها عن الجميع، تدرك أن الحياة ليست مكانا للراحة، بل للجهد والعمل والبذل والعطاء حتى يرضى الله.. فيرضيها بآخرتها كما أرضته بدنياه..
وكفى بالموت واعظاً ومحفزاً لنا على الصبر والعمل والجهاد في كل حين..