غسان الجمعة
إنَّ عجز الأمم عن استثمار مواردها البشرية ومقدراتها المادية والحضارية يكمن في القصور الكامن في أجهزة التفكير والإرادة التي تتجسد في ثقافة الأفراد وأساليب وطرق التعامل ضمن المنظومة الاجتماعية لأي مجتمع أو أمة.
فلا يجهل أحدٌ منَّا الغنى المادي والثقافي والروحي لأمتنا العربية والإسلامية، لكن يسأل متسأل: لماذا هذا التخلف والجمود في أمة تمتلك من مقومات الحضارة وعناصر النهضة آلاف الفرص والأسس التي من الممكن أن تبني عليها انطلاقتها؟
إنَّ سبب الاضمحلال هو انهيار وضياع حلقات دائرة الأداء الإنساني والحضاري لدى الفرد في مجتمعه التي تبدأ بحلقة الخاطرة، ثمَّ الفكرة، ثمَّ الإرادة التي تتولد في شخصيته كمرحلة أولى بناءً على ثقافته وقناعاته وقيمه ومبادئه التي ينتقل بها في مرحلة ثانية نحو حلقة التعبير في البيئة المحيطة، ثمَّ الممارسة التي تنتج الإنجاز المحسوس.
فإذا أصاب العطب أو الخلل إحدى هذه الحلقات، فإنَّ مضاعفاتها ستنعكس حتما على المجتمع كرد فعل بصورة عجز وتخلف ومشكلات أمنية واجتماعية وسياسية …الخ
إنَّنا اليوم بحاجة إلى نظام تربوي جذوره تتغذى من هويتنا ومبادئنا، وتنمو فروعه نحو نور التطور والتقدم العلمي، والمقصود بذلك هو إعداد نظام تربوي يتمتع بفعالية متجددة من خلال تجديد المعلومات والمفاهيم والمصطلحات بما يتناسب مع ثقافتنا، وكذلك تطوير المهارات العقلية والعلمية لتكوين بيئة محفزة يشعر الفرد بقوة تأثيرها فيه بما تمنحه من حرية في الرأي ومساحات متنوعة من الوعي الذي نتج نتيجة بناء شخصيته من توفرها.
وعندها يستطيع هذا الفرد أن يبدع لنفسه ومجتمعه ما يشاء ضمن معايير الهوية والثقافة، وكذلك يستطيع تقبل الرأي الآخر، وإثبات فاعليته في أي تطور على أي صعيد من خلال إقامة علاقاته مع الآخرين على أساس من التكامل والفهم المستقل والوعي القادر على مواجهة تحديات الزمان والمكان والمشاركة في صنع القرار.
إنَّ البيئة التربوية التي تعيش فينا هدفها تقييد الفكر، وتدجين نمط الحياة، وسحق الإرادة، وإنَّ ما يعزز هذا النظام التربوي قوالب جامدة من التفكير لمواجهة أي مشكلة، وهذه القوالب زُرعت فينا منذ الصغر، تبدأ بطرق ومناهج التدريس في المدارس والجامعات ولا تنتهي بطلب توقيع معاملة إدارية في مؤسسات الدولة.
إنَّ تعويم ثقافة القطيع في المجتمع، وقولبة تفكير أبنائه ومواطنيه، يسهل من خلالها توجيهنا لرغبات الأب المتسلط، والمدير المتسلط، والحاكم، والنخب المتسلطة، بحيث يكون المجتمع خاضعا لهذا الفكر القائم بأفراد تحمله لا شعورياً في نطاق الأسرة والعمل والمؤسسات الثقافية والتعليمية والدينية والسياسية وغيرها، وعندها ستكمل الأنظمة الديكتاتورية مهمة تغذيتها ومحاربة أي محاولة لتغيير نمطها؛ لأنَّها البيئة الوحيدة التي تمكنها من السيطرة على المجتمع.