أعرف شخصاً لديه شهادة جامعية وعلى درجة عالية من الثقافة، كان مدخناً شرهاً وكلما زار طبيبه نصحه بترك التدخين وشرح له خطورته ولكن دون جدوى، إلى أن أصيب صاحبنا بأزمة قلبية كادت تودي بحياته ودخل العناية المركزة لعدة أيام. بعد هذه التجربة المؤلمة لم يتوقف صاحبنا عن التدخين وحسب، بل لم يعد يطيق رائحته وأصبح يحذر المدخنين من محاذيره الصحية كلما سنحت له الفرصة.
صاحبنا ما كان ينقصه الوعي أو المعرفة بأضرار التدخين لكن هذا الوعي لم يتحول إلى سلوك إلا بعد أن مرَّ الرجل بتجربة شعورية غيرت في نفسه ما لم تغيره المعرفة النظرية المجردة.
لا قيمة للوعي إذا لم يصل إلى درجة تؤثر في السلوك وهناك درجات من الوعي لا يكتسبها الناس من صفحات الكتب أو أفواه المحاضرين وإنما من خلال التجربة والمعاناة. حتى صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام خضعوا لهذه التجربة في غزوة أحد، فهم لا شك كانوا يملكون المعرفة النظرية بأهمية الطاعة لله ورسوله، ومع ذلك عصوه وغادروا مواقعهم فجاءت نتيجة معصيتهم هزيمة أثخنتهم قتلاً وجراحاً وآلاماً، وكان لهذه الجراح والآلام أثر كبير في ترسيخ مفهوم طاعة الرسول في نفوسهم مما هيّأهم للانتصارات التالية التي فتحوا بها الدنيا.
عندما لا يكفي الكلام النظري في صقل النفوس وترسيخ المعاني فيها، يُقدّر الله أن يصقلها ألمُ التجربة العملية التي يتلقاها الناس عبر حواسهم واقعاً مؤلماً، فتغيّر في نفوسهم ما لم تغيّره الكلمات وهكذا ينصقل وعي الشعوب في أتون الثورات.
ينجدل الوعي والسلوك والشعور عند الإنسان معاً في حبل واحد تتفاعل مكوناته فيما بينها، يُعبّر الوعي عن نفسه بالسلوك ثم تختبر نتائجُ السلوك صحةَ الوعي فتعزِّزه أو تعدِّله، ويلعب الشعور دور المحفِّز لهذا التفاعل ولا يتم ذلك إلا في وعاء الممارسة والتجربة.
تدرك الأنظمة المستبدة أن تطوّر وعيَّ الشعوب سيدفعها إلى رفض تلك الأنظمة ومقاومتها، ولذلك تفعل ما بوسعها لتحول دون تطور هذا الوعي، ولأن الوعي لا يتطور إلا بالممارسة ولأن الممارسة تحتاج إلى حرية، تدرك تلك الأنظمة أنّ الوعيَّ بأهمية الحرية هو أخطر أنواع الوعي فتسمح للمثقفين والمشايخ أن يتحدثوا عن كل شيء إلا عن الحرية!
أذكر أنني كنتُ أقدّمُ محاضرةً في نقابة المهندسين في إدلب عام 2006 عن (العادة الثامنة) وهو موضوع يتعلق بالقيادة وأدوارها وكيف أن مهمة القائد الرئيسية هي إطلاق إمكانيات من يعملون معه. بعد المحاضرة في الفترة المخصصة للنقاش رفعت سيدة يدها وقالت: كل ما تقوله دكتور يظل كلاماً نظرياً من دون (حرية). أذكر تماماً كيف اضطرب الحاضرون لمجرد ذكر هذه الكلمة! كذلك في المساجد كانت الدروس والنشاطات مسموح بها قبل الثورة ولكن بشرط ألّا تُعرّف الناس بحقوقهم ولا تحدّثهم عن مقاومة من ينتزع منهم هذه الحقوق!
ما كانت الثورات العربية لتقوم لو لم يصل الوعي بأهمية الحرية عند كتلة حرجة من الشعب إلى درجة تكفي للقيام بثورة. وقد وصل الوعي إلى هذه الدرجة لسببين : أولاً، التراكم السريع للمعرفة النظرية بفضل الفضائيات ووسائل الاتصال الحديثة التي عرّفت الشعوب العربية بعمق الحضيض الذي أوصلتها الأنظمة إليه وبالفرص الهائلة التي ضيعتها عليهم. وثانياً، تفاقم وطأة التجربة الواقعية التي تعيشها تلك الشعوب من فقر وبطالة وفساد وتخلف وامتهان للكرامة الإنسانية.
ولكن هل يكفي الوعي بأهمية الحرية لتصبح الشعوب متطورة جاهزة لممارسة الحرية بمسؤولية؟ بالطبع لا. لكن بوجود أنظمة مستبدة تعطل طاقات الشعوب وتدفن إمكانياتها فإن نشوء هذا الوعي وبلوغه درجة المطالبة بالحرية وقيامه بانتزاعها من براثن المستبدين هو مرحلة لا بدّ من الوصول إليها حتى تَعبُرَ الشعوب من خلالها إلى مراحل يكتمل فيها الوعي بأساليب ممارسة الحرية فلا تقتصر الشعوب على المطالبة بها. كيف يمكن للشعوب أن تتدرب على ممارسة الحرية بمسؤولية إذا لم تنل حريتها؟!
في تجربة قام بها اثنان من علماء النفس على مجموعتين من الطلاب لتوضيح الفرق بين التعلم بالممارسة والتعلم النظري مُنحت المجموعة الأولى (حرية) استخدام الكلمات التي يتعلمونها في القراءة والاستماع والحديث فتعلم الطالب 5000 كلمة جديدة في العام. في حين اقتصر تعليم المجموعة الثانية على استخراج معاني الكلمات من المعجم وحفظها دون استخدامها فتعلم الطالب ما بين 100 إلى 200 كلمة جديدة في العام وعملياً لم يكن قادراً على استخدامها في التواصل.
يَعرف الأطباء الفرق بين ما يتعلمونه في الكتب وما يتعلمونه عندما يبدأون الممارسة في المستشفيات، ويَعرف المحامون أيضاً هذا الفرق عندما يبدأون (الأستذة) في إحدى مكاتب المحاماة، لذلك لا تنتظر من أي شعب على وجه الأرض أن يتعلم الحرية إذا لم يُمنح الفرصة لممارستها، لا تنتظر منه أن يتعلم حلّ خلافاته إذا لم يُمنح الحرية الكافية لظهور هذه الخلافات وحلّها، لا تنتظر منه أي تطوّر في قدراته إذا لم يُمنح الحرية الكافية لاستخدام هذه القدرات.
إن طغاة الشرق والغرب وأذنابهم في منطقتنا، المتضررين من حرية الشعوب وإطلاق قدراتها سيركزون كثيراً على سلبيات الثورات العربية، بل سيتدخلون بطرق ظاهرة وخفية من أجل إفشالها، سيصلون كيد الليل بالنهار ليبلغونا رسالة واحدة: الحرية لا تليق بكم، سلبياتها أكثر من إيجابياتها، فعودوا إلى القمقم وارضوا بوعي باردٍ مدجَّن، سيصدقهم بعضنا، لكن مسيرة الأحرار تستمر فالتاريخ لا يعود إلى الوراء.