الحياة محطات عابرة، ومواقف نمر منها الواحد تلوَ الآخر، والجميل فيها هو ما تسعى لتتلقَفه، ولاشكَّ أنّا آخذوا عِبرٍ وتاركوا أثرٍ في كل. لكنّ محطات مجتمعنا قد تبدو بصورة تراكمية، إذ تتداخل وتتشابك فيما بينها ليكون الصواب أو الخطأ الذي يرتكبه فرد ما محسوباً عليه ومسجلا له في مدونة المجتمع الباطنية، ذلك التداخل كله كان سبباً في تفشي إعاقة فكرية ونضج عقلي متدني المستوى لدى فئة كبيرة لا يستهان بها ضمن إطار هذا المجتمع.
فمثلا التعامل مع الناشئين نلمس فيه فشلا ذريعاً تكبدَ عناء تحمل نتائجه جيلٌ تعِب تراوده مشاعر الأسف، أو ربما يشعر بشيء أشبه بالغصة القلبية على ما لقيه من أسلوب خاطئ في طريقة أهله بمعالجة قضاياه، لكنه مع ذلك لا يملك حلاً إلا أن يسير على النهج نفسه في معاملة أولاده. ذلك أنَّ المجتمع يكرر نفسه والأخطاء تتوالى والسقوطات تتابع في ذات الحفر و الوجوه و الزمن فقط ما يختلف فيها >
كلمة مراهق شغلت عقول الآباء والمعلمين والمربين، والفهم الخاطئ لها جعل منها قضية عظمى قد تؤثر في سلوك الأبناء ليصبحوا عدوانيين بشكل غير مباشر أو انطوائيين متقوقعين على أنفسهم، إما هذا أو ذاك، فإذا تمرد الابن على رأي والده صار عدوانياً بالتلقائية المباشرة، وإن أبدى السمع والطاعة فتلقائيا ذاتية سيكون انطوائيا أو منحرفا عما أرادوه له سراً.
الأصل اللغوي لكلمة مراهق يعني الاقتراب، فراهق الغلام أي قارب الاحتلام، ورهقت الشيء أي قربت منه. أما اصطلاحا فهي فترة الحياة الواقعة بين الطفولة المتأخرة والرشد، ومع علمنا بهذا إلا أنَّ الفكر التقليدي يأبى أن يتعامل بواقعية ويفضل النهج القائل: «ما يحتمل أن ينالك منه أذية؛ أغلقه بقوة قبل أن تفكر بفتحه الرعية». متجاهلين بذلك دور الفرد نفسه في تكوين شخصيته وبناء كيانه الخاص الذي يتميز به عن غيره، وأن من لا يخطئ لا يتعلم فأحيانا قد يكون الخطأ عادياً لكنه يخرج بدرس مربي قد يعجز الملقنون عن شرحه.
بالرغم من تطور العلوم و ازدياد المعارف إلا أنَّ المعالجة نفسها تتكرر، فالعبث الدراميّ بالحقائق كان له التأثير الأكبر والعابثون بأدمغة العوام هدفهم إما التعصب القبلي و التمسك بالأعراف وذلك إذا كانوا أهلَ جهل، أو الحد من نهوض الأمة وحرف مسارها عن سكة الحق إلى سكك الباطل، وذلك بما نسجوه لنا من برامج وأفلام ركزت على الناشئين، فكانوا يصورون لنا المراهقة على أنَّها فترة سلبية و يشددون على دور الأهل في إحكام القبضة و تضييق الخناق وغلق الأبواب في وجوه أبنائهم و تمحورت خطتهم السامة على النظرة الاجتماعية للخطأ الذي يرتكبه أبناء هذا السن في ميوله الجنسي للطرف الآخر والتقرب منه، علماً أنَّ هذا ليس خطأً بل عنصرا غريزيا فطريا من طبيعة الإنسان كما غريزة الحفاظ على البقاء.
العنصران الغريزيّان القائدان اللذان حددهما الفلاسفة في نظريات الوجود البشري، وأطلقوا على ذلك مسمى الحب وبات الخوف من الحب كالخوف من العار، وبات المحبّون مجلبة للفضيحة، ذلك لأنَّ المجتمع لا يرحم، والناس همهم أن ينقدوا، والأخطاء لا تُنسى ولا تُمحى عندنا وما تفعله اليوم سيبقى الغائب الحاضر في صحيفتك مهما عشت وطال عمرك.
هذا هو التشابك المرحلي الذي نعانيه وتلك هي الذاكرة السوداويّة للمجتمع التقليدي. صحيح أنَّها مرحلة حساسة ونقلة نوعية من الطفولة إلى الرشد، لكنَّها تمضي بعفويتها دون أية مشاكل تذكر إذا ما كان الوعي سائداً في بيئة وجودها، وذلك لا يتطلب منَّا الكثير، فقط أن نمنحهم الثقة، ونبين لهم الطريق الأسلم، ونمد لهم يد العون، لا بل أن نأخذ بأيديهم ونعلمهم معاني الحب السامية، و طرق صيانة النفس و الغير من المكاره و الرذائل، و تغيير نظرتنا بشكل كلي لمفهوم الحب الطاهر وما تمناه العابثون من خلق أرواح مشوهة و بثها في أبنائنا.
الحياة مراحل وعلى تلك المراحل أن تنتهي دون ارتباطات سلبية، وعلينا بذاكرة حافظة للخير نسّاءة ومترفعة عن الخطأ أن نعي ذلك.