اليوم المنتظر، الوقت المثالي، التسلية دون عمل، الراحة والنوم دون مبالغة بالوصف… نعم أنا أتكلم عن يوم السبت في تركيا، فجميع العاملين أياً كان عملهم يكون لديهم نصف دوام في هذا اليوم، فضلاً عن الإجازة والراحة في اليوم التالي، وأنا ككل الناس بعد انتهاء دوامي في عملي بجريدة إعلانية في ولاية “غازي عينتاب” ذهبت وأصدقائي إلى مقهى في منطقة “الشارشي” حيث هناك تكون المقاهي الهادئة.
جلسنا في مقهى قريب من ساحة الديمقراطية وشربنا الشاي التركي الساخن في جوٍ باردٍ، وبعد ذلك قررنا أن نمشي قليلاً، أوقفتنا صديقتي لأكل الذرة المسلوقة، لكن نظرنا حينها إلى بعضنا وقلنا: “كيف سيفهم علينا البائع ونحن لا نعرف اللغة التركية؟!” بدأنا بتركيب الجمل اللازمة وفعلاً نجحنا، لكن حينما قالت صديقتي: “ماذا يعني دبس رمان بالتركي؟” التفت البائع إلينا وقال: “أختي أنا سوري”، شعرنا حينها كأنَّ أبواب القدر فتحت لنا، فقلنا له: “هذه العربة لا يعمل عليها إلا الأتراك” لكن بعد حديث وشكر قال لنا: “أعادنا الله إلى بلادنا، كان عندي محل بحلب، وحاليا أعمل ببيع الذرة كما تشاهدون”، ذُهلت بعد ذلك وقلت له: “أخي ممكن أن نتكلم قليلاً؟ عندي فضول لأعرف قصتك كاملة، وأريد كتابتها إن لم يكن لديك مانع” قالها وهو يبتسم: “أختي لا أمانع، لكن دون أن تذكري اسمي.”
بدأ بسرد قصته بقوله: “كنت أعيش في حلب ولدي سيارة وبيت ملكي، وكان عندي محل كبير، وفي يوم من الأيام بدأ القصف، فنزلت قذيفة فوق سيارتي، قلت حينها: الحمد لله، المهم أنَّنا سالمون، وبعد أيام قليلة عاد القصف بشكل أقوى واستمر 5 ساعات، بعد أن توقف جاء العامل عندي إلى بيتي وقال: أدرك المحل فلقد نزل فيه أربع قذائف هاون.”
بين جملة وأخرى يتوقف ليبيع الناس كاسات من الذرة الساخنة اللذيذة المخلوطة بالملح والكاتشب، ليعود ويكمل: “هنا أصبت بالذهول، لكن قلت: المهم أنَّنا بخير، لكنني تأثرت وحزنت كثيراً، لأنَّ شقاء عمري ذهب بطرفة عين، وبعد أيام أيضاً عاد القصف مجدداً بشكل قوي، وقتها خطر ببالي اللجوء إلى بيت جارنا المقابل لنا أنا وزوجتي وأطفالي، والقصف اقترب هذه المرة من بيتنا كثيراً، لأنَّ الأصوات كانت وقتها قوية جداً، وعندما هدأ خرجنا لنرى ما حدث، ليتبين أنَّ بيتنا قد قصف بتلك القذائف، حينها انهارت أعصابي، فأسرعت زوجتي لمواساتي، أدركنا وقتها أنَّ آخر ما نملكه قد قصف، فحمدنا الله على سلامتنا وقررت وعائلتي الذهاب إلى تركيا، فاستدنت من أخي أجور طريقنا.”
يكمل ذلك الرجل حديثه بحسرة قائلاً: “حسبي الله ونعم الوكيل، عندما أتيت إلى تركيا وعائلتي ظننت أنَّ الآجار سيكون رخيصاً، وأنني سأجد عملاً جيداً، وأنَّ أطفالي سيدرسون، فانصدمت بكل شيء، فآجار البيت غالٍ، وأجور الدلال كانت غالية أيضاً، بقيت مدة شهرين دون عمل، وما لدي من مال شارف على الانتهاء، حينها أصابني القهر، فخرجت مساء أتمشى في السوق، فرأيت عربة لبيع الذرة المطبوخة واقف عليها رجل تركي كبير بالعمر، وقفت وقلت في نفسي: إذا عرضت عليه بيعها ووافق على بيعي إياها سأشتريها ورخصتها، اتصلت بصديقي ليأتي ويترجم ما سيدور بيننا، وعندما جاء ذهبت إلى الرجل التركي لأكلمه.”
وهنا بدأت الابتسامة تظهر على وجهه، وقال مكملاً ما حدث معه مع صاحب العربة التركي: “الرجل التركي المسن عرض عليَّ العمل على العربة مدة 12 ساعة باليوم دون توقف مقابل 80 ليرة باليوم ولم يرضَ أن يبيعني إياها، وافقت فوراً وبدأت العمل عليها في اليوم الثاني، في أول يوم كان ظهري وقدماي تؤلماني من كثرة الوقوف، بعدها تعودت وقلت: الحمد لله، المهم تأمين لقمة عيشي بنفسي وتأمين متطلبات أسرتي دون نقصان.”
حينها نظرنا إلى ذلك الرجل وقلنا له: “حسبنا الله ونعم الوكيل، عوضك الله، وأعادنا وإياك إلى بلادنا”، لم يقبل أن يأخذ منَّا ثمن الذرة الذي سكبه لنا بالكاسات كوننا أصبحنا أصدقاءه بسبب ذلك الحديث.
عندما كان يسرد قصته كنت ألاحظ أنَّه رجل بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ، فرغم ما حصل معه عاد وقال: “الحمد لله”.
1 تعليق
AHMAD SYRIA
جد رائع🌷
نشكر الكاتب