هبة الله بركات |
أسمع صوت الباب يطرق، في الوقت الذي كنت مستلقية على فراشي، وكعادتي ألامس كلَّ شبر في جسدي، أطمئن على نفسي وأقف فرحة على قدماي، وأرتِّل آيات الشكر والحمد، فمن شدة فرحي رفعتهما بكلتا يدي لأنزلهما أرضاً، وأمشي، لقد مشيت! يا ألله أنا أمشي، فهرعت نحو الباب، وبدلاً من أن أسأل مَن الطارق، صرت أصرخ لقد صرت أمشي!
وفجأة فزعت! لقد كان حلماً تراءى لي، في حين دوى صوت الباب، يا ألله كم تمنيت أني لم أستيقظ! انهمر الدمع من عيناي، أبكي وأذكر تلك الليلة التي أحرقت شبابي.
في ذاك اليوم كانت أمي زائرة عندي، ولا أدري ماذا أصابها، تتألم بشدة، لم نستطع أن ننتظر الصبح، لقد كانت متعبة جداً، اتصلت بزوجي أخبرته أن يأتي، وما لبث برهة من الوقت حتى جاء، فتجهزنا ورحت برفقة والدتي، لقد كان زوجي يقود دراجة هوائية، فصعدت أنا خلفهما، لقد كانت الشوارع مظلمة مخيفة جداً، وكان مسرعاً، انتابني في تلك اللحظة هاجس خوف.
أثناء طريقنا مررنا بحاجز تفتيش أشار إلينا، ظنّ زوجي أنَّه يشير لنا لنطفئ ضوء الدراجة خوفاً من الطائرة، لأنَّه أيضاً يعرفهم، لم يخطر في باله أن يتوقف، لقد كانت الإشارة لنا للتوقف، فلم يعرفوه لظلمة الطرقات، فما بدر منهم إلا إطلاق النار علينا، متعمدين استهدافنا، لم أعد أدري ماذا جرى، أحسست بنفسي أهوي أرضا، وشيئا ما يخترق أضلعي.
مضت أيام على الحادثة وما زلت في غرفة الإنعاش فاقدة للوعي، هذا ما أخبروني إيّاه، ومضى وقت حتى استفقت وتحسست نفسي، لقد كانت الغرفة مظلمة، ورائحتها مزعجة، أبحث في عيناي عن زوجي، أطمئن عنه وأمي، شعرت بشيء ما ينقصني، لم أستطع وقتها إدراك الأمر، لأنَّ تأثير المخدر يسري في ثنايا جسدي.
فأردت أن أنهض وحاولت لأبحث عن أحد، لكن… لم أستطع حمل نفسي، لا حراك لقدميّ، لا أحسّ بهما، بدأت أصرخ بأعلى صوت وأبكي، ماذا حدث لي، أين أنتِ يا أمي، فدخلت الممرضة تهدئني ومن ورائها زوجي، وما زلت أبكي وأسأله ماذا بي؟ ضمني إلى صدره وأخبرني: لا شيء، هذا قدر الله، وأجهش بالبكاء.
أخبروني أنّ الإصابة كانت بليغة وشديدة الحرج في ظهري، ما تسبب لي بإعاقة حركية، جعلتني مقعدة لا أقدر على المشي أو الحراك، حاول الأطباء علاجي، لكن لم تجنِ محاولاتهم ثمراً، لقد أرسلوني للمعالجة إلى البلد المجاور، لم يكن في بلدي أطباء متخصصين، أكثرهم هاجر وكثير منهم من قضى نحبه في هذه الحرب، ورغم كل المحاولات إلا أنَّهم أجمعوا على موت خلايا أطرافي العصبية، وأنّ مقدرتي الجسدية للعودة للمشي شبه مستحيلة.
خرجت من المشفى وعدت إلى منزلي، وبينما أن أطأ أرض بلدي مرّة أخرى بعد تلك الحادثة، انتابتني هواجس كثيرة ومريرة، خاصة بعد مروري بذلك الطريق الذي وقعت فيه الحادثة، أدركت أنّه لم يتبقَ لديّ آمال، لقد ماتت فيني الحياة، وعدت هرمة لا مطلب لي غير الموت، صعبت عليّ الحياة، رغم أنّ زوجي بقربي يرعاني، وقد ظلّ معي متعبا مرهقا يُحمِّل نفسه سبب ما حلّ بي…
وقعت بين ألمين، أولهما أني صرت معاقة جسدياً، أحسست أنني عبء على أهل بيتي في هذه الحياة، إنَّ ألمي على زوجي لرفضه التخلي عني أو البحث عن غيري، لم يكن ذنب أحدٍ، إنَّها مشيئة الله، ماذا لو كنا نمشي على مهلٍ، أو توقفنا حين أشاروا إلينا، ماذا حدث لو أنَّهم لم يطلقوا النار علينا، كان بإمكانهم تحذيرنا بطرق أخرى، دائماً ما يراودني هذا التساؤل وأفكر ماذا لو كان تغيّرت الأحداث ولم تكن هذه الحرب، هل هي سبب عجزي اليوم، أم أنني كنت سأتعرض لحادث مختلف وألقى قدري ذاته؟!
ما علمت بعد كيف أنسج أحلامي، كيف تكون الحرب لعنة علينا، فتصير حياتنا جحيما، نشتهي الموت في كل زفرة وشهيق، حينما نرى أنفسنا ضحايا لجهلة حملوا السلاح في غير حاجته، ولهمجية حرب فتكت بأغلى ما نملك، أعود أتساءل عمَّا أصابني فأتذكر أنَّه في الوقت الذي كنت فيه على فراش الموت فاقدة في وقتها بشكل حتمي قدماي، كان قد وقع حادث أشدّ ألما في مكان آخر من بلدي، حيث تعرض طلبة مدرسة لإصابات جرّاء قذيفة تسببت بموت أحدهم وتشوهات بالغة للآخرين، وتعرَّض بيت لقصف مباغت، فراح أربعة أطفال يتطايرون أشلاء، والأم تاهت من بعدهم أين تولي شطرها، وحوادث كثيرة غيرها خلّفتها لنا لعنة الحرب، فإلى متى ستستمر في أخذ أرواحنا وسلبنا الحياة؟!