كانت ليلة باردة ومظلمة غاب القمر الحزين تحت غيوم كثيفة ومدفأة الحطب كانت تلتهم دون رحمة آخر ما تبقى من أبواب خشبية محطمة بفعل القصف الذي لم يهدأ ولو لساعة واحدة منذ شهر ونصف ..!!
وتبدو الصورة وكأنها الأيام الأخيرة لحلب الشرقية فخلال شهر واحد سقطت أجزاء المدينة المترامية الأطراف في يد قوات نظام الأسد تباعا..!!
في آخر مرة خرج صديقي وزوجته من بيتهما صباحا إلى زيارة صديق في مشفى القدس الوحيد المتبقي في حلب الشرقية المحررة والمنكوبة معا ..!!
ولكنهما عند المساء لم يستطيعا العودة إلى بيتهما ، كان حي بستان القصر قد استولت عليه عصابات الأسد ..!!
ولم يعد لصالح ومروة من بيت أو مأوى وكل ما فازا به ( اللابتوب ) مع حقيبته الجلدية السوداء ، كان العروسان يحلمان بالعودة مساء إلى البيت ، ولكنه حلم لم يتحقق استبدلاه بصورة اشتهرت كثيرا وانتقلت من هنا إلى كل أنحاء العالم ..!!
أسندت مروة رأسها المثقل بالهموم والأمل على كتف زوجها وراحا ينظران طويلا إلى الجدار الذي كتب عليه صالح كلمتين اثنتين فقط هما عنوان أغنية يحبها الجميع لفيروز ، أغنية تثير الحنين والحب ، ولكن الكلمتان الآن تثيران أقسى مشاعر القهر والحزن على خروج المحاصرين من مدينتهم التي ذاقوا فيها كل أنواع الويل على مدى ست سنوات وأكثر …!!
قد يستغرب البعض من وصف الكلمتين بأنهما تثيران كل هذه المشاعر المأساوية ولكنها الحقيقة المرة …!!
نعم ، ( راجعين يا هوى ) وتاريخ لا ينسى 15 /12/ 2016 وليس هوى العشق للمحبوب هو المقصود هنا ،وإنما هوى حلب بكل تفاصيل حاراتها القديمة المهدمة وبكل عنفوان أبوابها التي ماتزال صامدة وشاهدة على وحشية الدمار والقتل ..!!
هوى يثير موجة رهيبة من المتناقضات حب وألم وقصف وموت ورائحة دم وقالب حلوى صنعته مروة في عيد ميلاد زوجها من طحين وبيض فقط ، وبالونات ملونة يداعبها الهواء وينقلها من غرفة لأخرى بعد أن تحطمت النوافذ بسبب برميل سقط قريبا من بيت صالح …!!
وفستان زفاف كان أبيضا ناصعا ولكنه امتزج بالغبار المتطاير فصار رماديا معلقا كحبل مشنقة لكل الذكريات الجميلة بين زوجين كان فيلما وثائقيا سببا لتعارفهما وكان الأمل بالحياة والحب دافعا لزواجهما في أيام هي الأقسى والأصعب !!
حلب الشرقية محاصرة والمواد الأساسية الضرورية باهظة الثمن والكثير جدا من المتطلبات مفقودة ولذلك اقتصر حفل الزفاف على عشرة أصدقاء رقصوا وهتفوا للثورة ، ومجموعة من صديقات مروة اجتمعن وغنين وتمنين لمروة حياة مقبلة سعيدة فمروة زوجة شهيد ولديها ابنة سمراء لطيفة في الثالثة من عمرها ..!!
مروة كانت تعيش مع أهلها في بيتهم ، أما صالح فأهله في الطرف الغربي من حلب لم يحضروا عرسه البسيط المولود من قلب الألم واكتفوا بمكالمة صوتية عبر الوتس للتهنئة والمباركة ..!!
ولا حتى قطعة شوكولا واحدة يمكن أن تقدم للمدعوين لحفل الزفاف فالأسواق خالية إلا من الدمار وأصوات الطائرات التي لا تغادر سماء حلب الشرقية ولو لساعة واحدة ..!!
بعد شهر واحد من حفل الزفاف خرج العروسان من حلب الشرقية ، وخرجنا جميعنا ولسان حالنا مازال يردد راجعين يا هوى !!!