يوسُف تركيّ |
الإنسان العاديّ بطبيعته لا يعرِف غير المظاهر، يبني أحكامَه عليها، ويُوجّه أفعاله من خلالها، ولهذا السبب نجده قد امتهنَ صنعةَ التأوُّه والندامة.
هذه البساطة في تسمية الأحداث ترفع من نسبة الجهل، وتغدو بالجماهير قطعاناً تندلف دونما وعي صوب حافَّة الجبل.
هذا الواقع المؤسف آذى وجدانَ جوزيه سارماغو وأشعرَه بالأسف، أراد أن يصعد إلى مكان مرتفع ويصيح منبّهاً في الناس لكن وقتها لنْ يُصغي إليه أحد، بل لعلَّهم وقتها سوف يتّهمونَه بالجنون.
لم يسعفْه وقتَها غيرُ القلم، ذلك الكائن الذي لا يُسكِتُه أحد، فاستلَّهُ وبدأ يكتب، يعصرُ وجدانَه من الأسى ثمَّ يقدّمه لكَ خمراً تُسكِرك حقيقتُه، فكانتْ روايته العمى.
صدرت هذه الرواية عام 1995، وقد نال مؤلّفها جائزة نوبل للآداب عام 1998. تُصوّر لنا هذه الرواية صوراً من همجيَّة الإنسان المروّعة؛ التي تظهر حينما تثور مطامعه وتطغى الأنا على تفكيره، وكيف تؤثّر تلك الأنانيَّة سلباً على غيره، فيبدأ بالظلم والقسوة التي ليس لها مبرّر.
تبدأ الرواية بازدحام مروري ناتج عن سيَّارة لا تتحرّك. ارتفعت الأبواق الغاضبة، واقترب الناس من السيارة ليروا ما الذي يحصل. وإذ بإنسان داخل تلك السيَّارة يضع كفَّيه على عينيه ويصرخ بكلمتين لا أكثر ” أنا أعمى”
حينما تقرأ الأحداث بتأنّ فستعلم أنَّ كاتب الرواية لم يكن يقصد بالعمى الذي أصاب الرجل فقدان إمكانيَّة الرؤية، إنَّما كان يرمز إلى شيء أخطر وأصعب، إنَّه عمى العقل والضمير، إنّه عمى الفكر والأخلاق. وللأسف، كم هناك من أشخاص مصابين بهذا المرض وهم لا يعرفون، بل وحتى لا يريدون أن يعرفوا، ببساطة لأنَّ مصالحهم تكمن في عماهم. لنعد الآن إلى أحداث الرواية.
تمَّ نقل المصاب إلى عيادة، ليقفَ هناك الطبيب على حالة مرضيَّة غريبة لم يستطعْ فهمها، لذلك أُجّل الموضوع للغد.
في المساء تفاجأ الجميع بأنَّ من احتكَّ بهم المريض الأوّل قد انتقلت إليهم العدوى وأُصيبوا بالعمى، ومن بينهم الطبيب الذي فحصَه، هنا استنفرت الحكومة وقرَّرت حجز كلّ من أصيب بهذا العمى في محجر صحّي قذر.
زوجة الطبيب لم تُصبْ بالعمى، لكنّها حينما علمت أنَّ زوجَها سيُحجز عليه لوحده تظاهرت بأنَّها عمياء كذلك. وبالتّالي شكّلت هذه المرأة الكريمة وسيلتنا لمعرفة ما سيجري هناك لاحقاً.
قام الجيش برصد المحجر بعد رمي المصابين فيه، ومنع أحداً من الخروج منه بل حتّى الاقتراب من بوّابة الخروج التي كانت تفصلهم عنها شبه حديقة، وحتَّى الطعام كانوا يرمون لهم به من بعيد.
داخل المحجر ظهرت معاناة من شكل مختلف، عصابة من العميان تشكَّلت هناك وبدأت بالنهب والاستئثار بالطعام وإرغام النساء على دفع المقابل.
للأسف، في مثل تلك الظروف القاهرة وبدل أن يقف المكلوم بجوار أخيه تراه يزيد في إيذائه وجعله يعاني.
نعم، فكلُّ تلك الشناعات وأكثر ستظهر لو أُتيح للسفهاء أن يتبوَّؤوا مراكز القوّة. سوف تُستلَب القدس وقتَها بكلّ هدوء دون مشاكل.
الرواية مليئة بالرمزيَّات المذهلة التي تفتح عيوناً عمياء لم تكن تعرف عيبَها، لذا أنصح بقراءتها والاستفادة بما تضمّنته.
وأختم مقالي بأحد الاقتباسات من الرواية، إذ تقول زوجة الطبيب المبصرة الوحيدة داخل المحجر واصفةً المشهد المأساوي:
” ما أصعبَ أنْ يعيشَ إنسان مبصر في مجتمع أعمى “
1 تعليق
علاء
كلام جميل و يعبر عن الواقع.ساقرا الروايه لا بد من ذلك.
شكرا للمبدع دائما الاخ يوسف