كان حيًّا يضجُّ بالحياة رغم أنَّ عينيك تصافحا في كلِّ مشهد فيه صورة لدمار، وذكرى لدم لم يجف بعد، حتى في بداية دخولك للحي الكبير الشهير ستجد الجسر خاويا، والأبنية المتهالكة على طرفيه تصرخ وتستغيث، لكن لا صوت ولا إجابة!
النيران تشتعل في كل مكان حولي، شهداء بين الأنقاض، جرحى بعضهم يئن وبعضهم الآخر يحبو مبتعدا عن النيران والركام.
كلب يطبق بين فكيه على ذراع مبتورة، لا أعرف كيف ظهر فجأة، ولا أدري من أين أتى! رائحة حريق تزكم الأنوف، هسيس نار، عويل نساء، أصوات تبكي وتردد الله أكبر الله أكبر …!!
رجال إطفاء يصيح واحدهم للآخر، رجال إسعاف يركضون، إنَّه حي يتنفس ويتحرك، هذه آخر صورة مثبتة في ذاكرتي لحي الشعار.
بعدها بشهر تقريبا استعادت قوات الأسد سيطرتها على الحي، وسبق ذلك قصف همجي عنيف دمَّر المزيد من الأبنية والشوارع والمحلات التجارية، وأوقع ضحايا لا حصر لهم بين شهيد وجريح ونازح.
كان حي الشعار مكانًا رائعًا للتسوق في حلب الشرقية، ومعظم العرسان من الشباب والصبايا يشترون ملابس جديدة من هناك، وحين شعر صديقي سيف بدنو أجل الحي، بمعنى قرب سقوطه بيد قوات النظام، أخرج جميع ما لديه من ملابس رجالية واتجه بها لبيت الخالة أم أنس، كان بيتها ملاذًا آمنًا لنا في حي سيف الدولة، فهو قريب جدا من خط جبهة باردة مع قوات الأسد، ومن جامعي النصر والتقوى الذين لهما أثر كبير في حياتي…
في ذلك البيت أمضينا الساعات الأخيرة لنا في حلب الشرقية قبل خروجنا، خبزنا كلَّ ما لدينا من طحين على شكل فطائر زعتر، وأشعلنا كلَّ ما بقي لدينا من خشب الأبواب المحطمة في قلب مدفأة الحطب.
كان سيف يزود المدفأة بقطع كبيرة من الخشب طوال الوقت، وكانت الغرفة تبدو حماما سخانا وأحيانا تعجُّ بالدخان.
يزداد الجمر في قلب المدفأة كما يزيد في قلوبنا المنهكة المتعلقة فقط برحمة الله.
في تلك الأيام الأخيرة لم يعد يغلق باب البيت، فالكل يأتي إلى هذا الركن ليودع الخالة أم أنس (أم الثوار) بحق، وكان سيف يوزع الملابس على جميع الزوار، ويبدو في غاية السرور وهو يفعل ذلك، لم يقبل مالاً من أحد مقابل ذلك، كان يكتفي بطلب الدعاء مع عبارته الجميلة (ملبوس الهنا) مازالتُ بعد مرور عام على الحدث أرتدي السترة الفضية التي تذكرني بسيف الذي انقطعت أخباره عني، وبحي الشعار الذي أرى صوره على صفحات الفيس بوك وأتذكر كيف كان مليئا بالضجة وأصوات الباعة، هناك كان المركز الرئيس لمؤسسة مسرات حيث كان أصدقائي، وهناك كان نادي طفولتي، حيث رويت في أحد الأيام قصصًا للأطفال، وهناك يمكنك أن تأكل أطيب صندويشة فلافل، وحلوى المشبك، وأن ترى وجوه الناس تفيض بطاقة الحياة والإصرار والصبر، كلُّ ذلك وأكثر كان في حي الشعار…