مرَّ على الحادثة ما يزيد عن ستِّ سنوات، لكنَّها ما تزال حاضرة في ذاكرتي كأنَّها حدثت قبل أيام.
كانت مدينتي حماة تشتعل ثورة وحرية، والمظاهرات السلمية تطوف الشوارع، والحناجر تهتف بغضب.
على باب بيتنا وقفتُ أنظر إلى آخر الطريق قبل ذهابي إلى المدرسة، كنت في الصف التاسع، وكان الصباح مشرقاً مليئاً بالحياة، لكن فجأة انقلب إلى صباح مليء بالدم!
لا أدري كيف شعرتُ بأنَّ سيارة الأمن القادمة نحوي ستقتحم بيتنا، فقد سبق أن حدث ذلك مرات عديدة.
آخر مرة كانت قبل شهور حين فزعت من نومي على صوت رجل أمن مسلح يوقظني بضربات حذائه، كان أبي مضطراً للغياب عن البيت لأيام طويلة، حيث ينام متخفياً في أماكن عديدة منذ (أيام الثمانينات) ولا يحتمل أبي ظلم نظام الأسد وقهره للشعب، فالثورة كانت وستبقى كدم حارٍّ يجري في عروقه.
أسرعت إلى أمي لأخبرها بقدوم عناصر الأمن إلى بيتنا، وقبل أن تضع حجابها على رأسها كانوا قد وصلوا! فتحتُ لهم الباب، فحملني أحدهم من عنقي ورفعني إلى الأعلى وسألني بحقد: أين السلاح؟! ثم رماني أرضاً كأنَّني شيء تافه لا روح فيه ولا قيمة له.
أقدام باقي العناصر كانت تدوسني وتركلني، فقد كانوا أكثر من عشرين عنصراً،
جميعهم أصروا على تحطيم أضلعي، وسحق أحدهم نظارتي الطبية تحت حذائه الغليظ.
سال الدم من وجهي وكسر ضلعين من أضلاع صدري، عندها تألمت وبكيت بصمت وبدا قلبي حينها أصغر بكثير من أن يحتمل وحشية لا أعرف سببها، ومصدرها عناصر أمن تزرع الذعر في كلِّ مكان.
أمي سقطت على الأرض وفقدت قواها وهي تسمع صراخهم وشتائمهم دون أن تسمع صوتي. لقد اختفى صوتي في حينها، لكنَّه صار أعلى بكثير بعد خروجهم؛ لقد صنعوا مني بركاناً ثائراً.
وقبل خروجهم سرقوا كلَّ ما يمكن حمله في جيوبهم الكبيرة الملطخة بدماء الأبرياء، ودخلوا جميع غرف بيتنا الواسع وهم يفتشون عن السلاح! لم يكن هناك سلاح! ولم يجدوا شيئا!
أين أبوك يا حقير؟! يسألوني في كلِّ مرة ويغيرون الشتيمة مع كل سؤال، فمرة أكون حقيراً ومرة كلباً ومرة ابن عاهرة! وفي كل مرة يكون جوابي: لا أعلم، وصوتي يغدو بركاناً يقذف حمماً تحرق كلَّ شيء في داخلي وحولي.
بعد تلك الحادثة لم أعد أذهب إلى المدرسة، وغادرنا حماة إلى دمشق، في تلك الأيام كان وقود الثورة يزيدها اشتعالاً في كل أرجاء سورية، وكان حلمي بأن أكون ثائراً يتسع ويغدو أكبر وأكبر.