لا أدري أي النارين أكثر ألما واشتعالا؟! النار المشتعلة في قلوب المهجَّربن،أم ألسنة النار التي تأكل الدراجات النارية وبعض السيارات على قارعة الطريق؟!
الباصات الخضراء كانت السبيل الوحيد لخروج المحاصرين من حلب الشرقية، وهذا ما دفع العديد من الناس لحرق سياراتهم ودراجاتهم النارية، وبعضهم أضرم النار في بيته أو محله!!
كانت ألسنة النار تعلو في الشوارع المدمرة الكئيبة، تلتهم أوراق المنظمات والمؤسسات الثورية وبعض الأغراض التي لا يمكن حملها ولا يمكن تركها!!
بعد ذلك صدر قرار آخر يسمح للسيارات المدنية بالخروج من حلب المحاصرة.
كان طابور السيارات المصطفة المحشورة بالمعذبين وأمتعتهم يشبه سلكا شائكا يمكنك معرفة بدايته ولا يمكنك أن تعرف أين سينتهي.
حين وقفت السيارة التي تقلنا تركتها ورحت أمشي وأحصي عدد السيارات المتلاصقة التي يفوح منها رائحة الخوف والقهر، كان المشهد مع البرد والسماء المكتظة بالغيوم السوداء يبدو مريرا للغاية.
مشيت ما يزيد عن الساعة ونصف حتى نسيت إلى أي عدد قد وصلت، كما تهت بين الصفوف والشوارع الضيقة، فلم أعد أعرف كيف أعود إلى سيارتنا.
أدهشني الكثير من الشباب وهم يلتقطون صور (سيلفي) مع أصحابهم وخلفهم سيارات الأسى!! وقبل ذلك التقط الجميع صورا عديدة لحاراتهم وبيوتهم.
إحدى الصور جمعتني مع صديقي في حارتنا مع الهرة الشقراء التي حملها معه داخل سلة صغيرة.
كانت الصورة الأخيرة تعني الكثير بالنسبة إليهم، كأن لسان حالهم يقول:
(لا شيء يوجعني بعد هذا الرحيل)!!
ربما هي ميزة لأهل حلب الشرقية، حيث تسنَّى لهم أن يلتقطوا صورا تخلد ذكرياتهم مع قبور شهدائهم، كما تسنَّى لهم أن يخطوا رسائلهم على ما تبقى من جدران مدينتهم (راجعين يا يامو) (راجعين يا هوى)
في حلب الشرقية تم توثيق موتها ربما بمليون صورة فوتوغرافية، وأهل حلب رحلوا ضمن خطة بث تلفزيوني على الهواء مباشرة ليظهر الدمار في كل مكان والألم على وجوه المهجرين في كل صورة.
الرحيل عن حلب كان صاخبا كصرخات الأطفال، ممزقا للقلب كأشلاء الشهداء، وقاسيا كبرد وثلج الشتاء.
صارت الصورة الشاهد والمشهود، واليوم كلما استبد الحنين بنا لحلب نفتح ملف الصور من الجوال ونستعيد صورا مرَّ عليها عام وأكثر، نستعيد اللحظة بمشاعرها ورائحتها ولونها وبردها.
صورة سيلفي تعيدك إلى حضن بيتك وحارتك، وترسم على وجهك ابتسامة حزينة.
صورة أخرى تجمعك بالأصدقاء، منهم من رحل بعيدا ومنهم من استشهد ومنهم من انقطعت أخباره ومنهم مايزال معك.
صورة سيلفي أخيرة تعيد ترتيبك من الداخل لتوقظ فيك روحك التي اقتربت من حافة النوم أو الموت، لكن حلب لن تموت، حلب لم تسقط، نحن من سقطنا وقريبا ننهض من جديد في حضنها.