كثيرا ما كانت أمي تطمئن عليَّ من خلال ظهوري الأخير على برنامج (واتس اب) دون أن تكلمني، وفي الصباح ترسل لي أختي رسالة مفادها “كان ظهورك ليلة أمس متأخرا! هل كنت مشغولا بالكتابة؟”
أحد أصدقائي متلهف دائما للحديث معي مجرد رؤيتي (متصل الآن) تنهال رسائله مكتوبة وصوتية وهو يتوقع الرد فورا ويستغرب قلة كلماتي المكتوبة إليه!
ومع أن (واتس اب) من أكثر التطبيقات استخداما في التواصل بين الناس إلا أن الرسائل المكتوبة لا تنقل الحال على ما هو عليه وهي أضعف وسيلة في الاتصال؛ لأنها تفتقر لنغمة الصوت ولغة الجسد، والكلمات المكتوبة غالبا ما تفسر حسب حال المستقبل للرسالة وليس وفقا لحال المرسل، وكم من سوء تفاهم حدث بسبب كلمة فسرها الطرف الآخر على غير معناها حسب مزاجه وحالته النفسية.
قد يتحول مراقبة الظهور الأخير إلى عبء كبير، فالزوجة تراقب آخر ظهور لزوجها، والأم تتفقد آخر ظهور لأبنائها، ويصبح المراقب لآخر ظهور أسيرا للقلق والأفكار السلبية خاصة فيما إذا تأخر الرد من الطرف الآخر بعد إرسال رسالة ما.
في أيام الهاتف الأرضي لم نكن نواجه مثل هذه الأعباء، فالمتصل لا يعرف إذا كنت موجودا في البيت أم لا، واليوم يمكنك إخفاء ميزة آخر ظهور، لكن بالمقابل ستواجه لوما أكبر من المقربين المراقبين والحل في قوله تعالى: “وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ” النور/28 ليس من الضروري إذا طرقت بابي للزيارة دون موعد مسبق أن أفتح لك الباب، وبالقياس ليس من الضروري أن أرد فورا على الرسائل والمكالمات عبر وسائل الاتصال التي تزداد يوما بعد آخر فيما يضعف التواصل الحقيقي يوما بعد يوم.
وفي اللقاءات الحقيقة المباشرة وجها لوجه صار الناس شبه عاجزين عن إدارة جلسة حوار ودي دون اتصال بالإنترنت!!
كم يبلغ عدد الكلمات التي يكتبها الخطيب لخطيبته ضمن رسائل لا تنتهي حتى تسقط الكلمات في هوة العبث والتفاهة أحيانا!!
البعض يكتب في الأسبوع الواحد عبر جواله كلمات لو أنها جمعت لأصبحت رواية أدبية، لكنها للأسف كلمات عامية سطحية. ولو كانت الكلمة المكتوبة مأجورة لاختار من يكتب أفضل الكلمات وأقلها، كما يفعل الكُتَّاب حين يكتبون نصوصهم المأجورة قياسا بعدد الكلمات المكتوبة!!
لكن المشكلة الأخطر والأكبر تبدو في القيمة الزهيدة نسبيا للاتصال، وهنا تتجلى رعونة النفس والعبث مع الآخرين وإضاعة الوقت.
أي وسيلة للتواصل الاجتماعي هي ذات طابع حيادي، وإحساسك بالمسؤولية تجاه وقتك وكلماتك هي من يعطي لتلك الوسيلة قيمتها الإيجابية، أما أولئك الذين اختاروا وسائل الاتصال لإضاعة الوقت والمال فإنهم مسؤولون عند الله عن أمانة الوقت والكلمة.
وهل يكب الناس على وجوههم يوم القيامة إلا حصاد ألسنتهم وحروف كلماتهم؟! لا تُسيؤوا الظن بالغائب صاحب الظهور الأخير، والتمسوا عذراً لمن يتأخر في الرد، وأحسنوا اختيار كلماتكم المكتوبة، فالحياة والحب والأمل مجرد كلمة.