استشراف المستقبل مسؤولية تقع على عاتق العقلاء من ساسة المجتمع وأدبائه، يبرز هذا الدور في ظل وجود مؤامرات ومؤتمرات سرية وعلنية تفوح منها رائحة الخبث والعهر الدولي في جناح واقع أمر من العلقم. لكن هذه المؤامرات كانت أوسع وأشمل من أن يدركها عقل عاقل أو أن يبلغها قلم أديب أو لسان فيلسوف ناطق .. إنها عملت بشكل حثيث على تفريغ قسط كبير لتدمير كل بناء وصرح عظيم، وكسر كل قرطاس ومحبرة على رأس من يفكر باقتنائها والشروع في تشخيص الواقع عبر أنظمة رصينة قديمة بالبطش قد أتقنت فن الإخراس والإذلال.
إنهم يسلبون منك كل شيء ثم يمنحوك بعض الشيء لتحاول أن تثبت لهم أنك شيء فعال تمتلك مقومات النجاح… لكنك تحاول عبثاً أن تتعلق بقشة إنجاز في بحر من الفشل المظلم الذي ملؤوه لك عبر سنين من التعب والسهر لإفشال كل حلم وإطفاء كل نور..
إنهم يقفون في أعلى السفينة يستمتعون بإطلاق الضحكات المدوية في كل حين وأنت تضطرب وتلفظ أنفاسك الأخيرة، فيرمون لك بخيط صغير لا يسمن ولا يغني من جوع… فتركض له بكامل حماقتك وسذاجتك لتمسك به بعد أن يصوروه لك نجاةً وخلاصاً من موتك المحتم، ثم يقطعونه ثانياً لتضطرب من جديد، إنهم لا يريدون لك أن تموت ميتة طبيعية…
إنهم يريدون لك أن تموت وتموت معك كل فكرة تقضُّ مضجعهم وتحمل في طياتها بذور الانفتاح الذي يهدد مستقبلهم. لعل من أقذر ألعابهم وأنتنها ما هو متوفر أمام عيون العالم كله في مسلسل الموت السوري في إدلب السوداء بعد أن كانت خضراء يافعة، حيث قاموا بتدمير البنى التحتية للمدينة عبر أجزاء عديدة من هذا المسلسل الذي احتاج لإخراج وإنتاج دولي بكادر وكومبارس محلي الصنع، ثم بدأ التصوير ولمدة ما يقارب العامين والنصف من تحرير إدلب وهاهم الآن يعرضون علينا المسلسل كاملاً بعد أن سلطوا الضوء على أخطائنا في الإدارة لكيلا يكون لنا صوت قوي يصدح بطلب حقنا…
إنهم يعيدون لنا المشهد ببطء تام لنشاهد أخطاءنا الفادحة… ويستمتعوا بإطراق رؤوسنا واحمرار وجوهنا بالفشل الذي صنعوه لنا، إننا لم نحاول سوى أن نبني مجداً جديداً عبر الخيط الواهي الذي أنزلوه لنا إلى القاع، فلا هو بالقادر على أن يرفعنا ولا هو بالقادر على أن يطبق الخناق على رقابنا فنموت.
إن إدلب لم تكن سوى شاهد علينا لا لنا، لقد سخروا لنا سُبل التدمير الذاتي والتخريب الممنهج عن طريق الصراع على عرش زائف كالنصر الذي حققناه في إدلب، أمدونا بالسلاح والمال ورفعوا كرسي السلطة وجعلوا له سلماً واحدا، إنهم يريدون بهذا أن تُستَنفذَ قوتنا على سراب، وأن نفقد بصرنا في النظر إلى بريق ذهبٍ مزيف، ثم تكون بعد ذلك طلقة الرحمة في رأس الفائز المنهك في هذا الصراع الذي يظن المنتصر أنه جبار لأنه استطاع الصمود والانتصار، لكن سرعان ما يصدم بحقيقة أنه لم يكن سوى لعبة من مخطط كبير ومسلسل طويل لا يستطيع أحد أن يتنبأ بالجزء القادم.
يقطع الخيط من جديد، ويعود الضحك ليملأ المكان، ويتكرر المشهد بخيط جديد يحمل لوناً جديداً أزهى من ذي قبل.
1 تعليق
أم أروى
الله المستعان والله يعجز المرء على التعليق وتقف كلماته في سقف حلقه ما الذي حل بنا