الثورة السورية بجذريتها وشعبيتها عفويتها وأحقية قضيتها أمرٌ لابدَّ من التأكيد عليه في كل محفل ومطلع كلِّ مناسبة، في ظل وجود الكثير من المحاولات من داعمي الثورة المضادة لحرف مسار الثورة وتزوير تاريخها من خلال ممارسات ممنهجة تسعى فيها وسائل الإعلام لاختصار قضية الثورة بخلاف طائفي أو تحوير قضية الشعب المناضل من أجل حريته وتسميتها حرباً أهلية، وصل الانحطاط المهني ببعض وسائل الإعلام لتسميتها أزمة دولية … ثم جرت محاولات عديدة أيضاً للتعتيم على جرائم النظام باختزالها بضربة كيماوية، وذلك بتسليط الضوء عليها في المحافل الدولية وإهمال تاريخ طويل من الانتهاكات بحق المعتقلين والمجازر الدموية وقتل المتظاهرين وغيرها من الجرائم …
لم يقتصر الأمر على ذلك، فبعض المثقفين سعى جاهداً أيضاً لتحليل أسباب قيام الثورة تحليلاً سطحياً لا يقارب واقعاً ولا يراعي منهجاً.
لذلك كان لابدَّ من عمل جاد يكتب تاريخ الثورة كتابة توثيقية تحليلية لا تهمل سبباً ولا تترك حدثاً وتلم بكافة التفاصيل لتصوغ منها فهماً عميقاً لكل حدث …
وربما كان كتاب (سورية درب الآلام نحو الحرية) للدكتور عزمي بشارة من أفضل الجهود البحثية التوثيقية التحليلية التي بذلت في تحليل وتأريخ ظاهرة الثورة السورية بنظرة كثيبة.
بعد قراءتي للكتاب آثرت أن أشمل بمقالي معظم ما كُتِبَ عن الكتاب من آراء تفيد القارئ في تكوين نظرة كافية عنه.
يستمد الكتاب صعوبته التحليلية من عنوانه، حيث يرفق الكاتب العنوان بعبارة “محاولة في التاريخ الراهن” وممَّا لا يخفى على قارئٍ أن تأريخ مرحلةٍ ما يحتاج إلى مرور فترة من الزمن ليست قصيرة ليتكون لدى الكاتب رؤية عن كل مقدمة فيربطها بنتائجها ويشبعها تحليلاً وتفكيكاً.
يتحدث الكاتب عن نقاط أساسية في فهم ماهية الثورة السورية كظاهرة سياسية واجتماعية واقتصادية وليست كما ترى وتُصَوَّر الآن.
- إنَّ الثورة السورية شعبية بامتياز لا ترتبط بأي مؤامرة خارجية، إنما كانت مُلهَمة من ثورتي تونس ومصر.
- تسليح الثورة كان حلاً لمواجهة جرائم النظام وانتهاكاته، وقد جرَّ النظامُ الثوارَ إليه جراً ولم يكن خياراً، وبالتالي كان عفوياً وليس مخططاً له.
- الثورة انطلقت من المراكز المدينية للأرياف بعكس الأطروحة التي تجزم بريفية الثورة وطائفيتها، بل إنَّ نسبة كبيرة من الاحتجاجات والمظاهرات كان قوامها من المثقفين والجامعيين من الطبقة المتوسطة، غير أن عملية الترييف التي جرت لاحقاً كانت بفعل أدوات النظام الأمنية كإغلاق المنافذ واللجوء للحل القمعي الذي يفرض على الثوار اتخاذ الأرياف مركزاً لهم كبيئة مناسبة جغرافياً.
- الحراك الشعبي يَستمِد من شعبيته العشوائية وعدم التنظيم، ممَّا يمنع وجود جسم سياسي واضح وجامع، وهذا كان سبباً أساسياً لتذرر المقاومة الشعبية وتشتتها الذي سمح للنظام أن يستفيد منها كنقطة ضعف، فالنظام ليس ستاتيكياً متفرجاً يقوم بالقمع فقط، بل هو نظام مخابراتي حاضر بكل أجهزته كخلية ديناميكية تعمل باستمرار.
اعتمد الكاتب في دراسته لظاهرة الثورة السورية المنهج المتكامل العابر للاختصاصات، وقدم قراءة للظواهر المركبة بمختلف جوانبها وميز بين دينامياتها الاجتماعية والسياسية المختلفة بإسقاطات واضحة حيث استطاع الانتقال من التأريخ كعملية توثيق كلاسيكي هستوريوغرافيا إلى منهجية التحليل الاجتماعي التاريخي، ممَّا يدل على انفتاحه على مجالات العلوم الأخرى واستحضارها كأدوات لفهم الظاهرة وتحليلها، ولذلك ميز الكاتب بين الثورة السورية ومثيلاتها العربية بثلاثة فوارق:
- تركيبة المجتمع السوري الدينية والطائفية غير المتجانسة التي عطلت عملية تبلور الهوية الوطنية التي كان يمكن أن تفصل المجتمع عن النظام والنظام عن الدولة.
- الموقع السياسي الجيوستراتيجي لسورية ضمن محور لا يسمح بأي تحول ديمقراطي أيضاُ جعل الانتقال السياسي أمر مكلفاً.
- حالة الاغتراب التي يعيشها النظام في سورية عن المجتمع والتعاطي معه باعتباره استعماراً داخلياً يسيطر عليه من خارجه.
يحلل الكاتب طريقة تعاطي النظام مع الثورة في بداياتها التي بدأت كردة فعل جهوية شعبية على انتهاك جسدي مباشر لحقوق الإنسان في درعا، ما لبثت أن تطورت بعد فزعة بقية المناطق إلى مطالبة بالإصلاح وفَهِمَها النظام على أنها تحدٍ لسيادته ولم يستوعب أنها حق من حقوق الشعب، وهذا الفهم الخاطئ هو نتيجة حتمية لحال الاغتراب التي كان يعيشها النظام، حاول النظام بلا جدوى أن يتفهم مطالب الشعب بإصلاحات ثلاثية المحاور كرفع قانون الطوارئ وبعض القضايا الأخرى، لكن ما لم يفهمه هو عامل الزمن في المتغيرات الثورية، حيث كان لهذه الإصلاحات أثر رجعي على هيبة النظام عندما جاءت متأخرة، فلم تقنع الشعب بل زادته إصراراً، حيث اعتبرها تنازلاً من النظام يعبر عن ضعفه، ولو أنها جاءت ضمن سياقها الزمني المناسب ربما كانت سبباً في تهدئة الحراك وتحييد فئة كبيرة من الثوار.
وفي سياق التداول الطائفي لفكرة الثورة يقول الكاتب: “إن أبرز مخاطر المجتمعات المركبة في حال عدم رسوخ الدولة الحديثة عندما تُوهم جماعة أنها تمتلك الدولة، في هذه الحالة يصبح تأكيد الجماعات الأخرى لهويتها مسألة اعتراض على هوية الجماعة التي تدعي امتلاك الدولة، وإذا كانت هوية الجماعة التي تمتلك الدولة أقلية، فإن شعورها بأنها ضحية تاريخية يساهم في زيادة شدة القسوة في القمع، وهذا يعني انتشار سياسات الهوية في العمل السياسي بشكل يحول الصراع من أجل الحقوق إلى استقطاب هوياتي.”
وفي سياق آخر “الطائفية في سورية ليست افتراء، بل هي قائمة في نظام الحكم، ولا يمكن الطلب من المتضررين من نظام استبدادي يقوم على بنى طائفية وجهوية أن يعبروا عن مشاعرهم عفويا بلغة غير طائفية، فهذه وظيفة النخب السياسية التي تصوغ وعي الجماهير الشعبية وتتكلم باسمها.”
تنبع أهمية الكتاب من أهمية موضوعه وتعقيدات المشهد الذي يتناوله ضمن التفاعلات السورية وتشابكاتها وارتباطها بالمتغيرات المحيطة في الدول المجاورة، وفي رسم ملامح مستقبل الحراك السوري والثوري العام، ولذلك فالكتاب تأسيسي ومرجعي لكل دراسة لاحقة في الشأن السوري، ويمكن أن يكون كلُّ فصل فيه عنواناً تكتب فيه المؤلفات.