كم أنتِ غالية أيتها الحرية، كم أنتِ جميلة، كم أنتِ رائعة!
ألستِ أنثى، وقد ركَّبَ الله في طبيعة العباد حبكِ مُنذ أن خُلقتِ؟!
يا لكِ من أنثى ذات سطوة وجبروت! من أجل عينيكِ وجدَ الآلاف أنفسهم في غيابات الجب، ومن أجل الحصول عليكِ سالت دماء الملايين على التراب الطهور، أيُّ أنثى مثلكِ يبذلُ في سبيلها البشر هذا الحجم المُرعب من التضحيات؟!
بفضلٍ من الله وحمده أُنهي اليوم جميع ما ألفهُ (العتوم) من روايات، وحقيقة لا أنسبها إلى الروايات بل هي للكتبِ أقرب ..
عندما أنهيُ كتابًا له أكسَبُ مئات الحكم، وأتذوق من فيض الكلمات ما يشبع حاجتي للمفردات الكثيفة التي لم أحصُدها في تلك السنوات التي مرّت وأنا لم أقرأ له، فحينَ تقرأ مؤلفاته تتعمق بالحياة، وتطلبُ منها أن تهبك أيامًا إضافية بصحبة كتبٍ تُزينها حروفه، وحينَ توجعك بشاعة الحياة، اِحمل في يدكَ كتبًا للعتوم وامضِ، واِقرأ له بعقلك قبل قلبك، ومن يقرأ له عليه أن يتحلى بشجاعة الواقع..
هذا العام كانت كتب الدكتور أيمن من ضمن أهدافي في مجال القراءة، والحمد لله أتممتها قبل نهاية العام بشهرٍ ونصف. فمنذُ قررت الخوض في تجربة السجون ورافقتهُ في رحلته برواية (يا صاحبي السجن)، ازداد إصراري على معرفة المزيد في هذا العالم المُظلم..
تبدأ أحداث الرواية قبل ولادة أحمد برؤية والدته امرأة تبشرها بولدٍ سيكون اسمهُ أحمد، وحينَ وضعتهُ أسمتهُ أحمد، كان اسم أحمد يظهرُ في كلّ قُرعة لتسمية الطفل..
الفصول العشرة الأولى عبارة عن أحداث وتصوير لحرب طيلة أيام السنة التي كانت عصيّة وصعبة، وفيها ذكرى الغارات الإسرائيلية على قرية أحمد (إبدر) ومجزرة صبرا وشاتيلا التي لها الوقع الأكبر على إيقاظ الحس الثوري في وطنية أحمد، حيثُ يصوّر لنا العتوم اِلتحاقَ أحمد بسنٍّ مُبكرة بالقوات المُسلحة الأردنية عندما كان عمره خمسة عشر عامًا.
بعد الفصول العشرة الأولى يأخذنا العتوم ويتنقل بنا من الحاضر إلى الماضي بقوّةٍ أذهلتني، وهذه ليستْ المرّة الأولى التي أقع ُفيها في مصيدةِ سرده..
تنقلتُ بين حياة أحمد العسكرية وذكريات دراستهِ وعملهِ في الحقل ومزارع العنب، عشتُ بين تلك الأوراق ما عاشه أحمد بتفاصيلهِ.
(أحمد الدقاسمة) دفع ثمن حبهِ لوطنه ضريبةً كبيرة هي سنوات حياته، إنه رجلٌ بأسمى معاني الكلمات، لم يرضخ ولم يقبل بمخالب الذلّ التي نشبها اليهود في رقبة الكبرياء والمروءة العربية…
وما أعنف هذا الأدب الذي أسقطه العتوم على مذكرات أحمد! ليظهر لنا بهذه الحلّة النادرة من الأبجدية التي تُدمع القلب.
لم يُخطِئوا عندما أعطوك هذا الاسم، فكنت َحقًا حامل الشعلة وراعيَّ جذوتها، لم تنتظر أحدًا، كنتَ أول من تقدم، وكنت حقًا أول من تركَ أثرًا.. عن ماذا أتحدث؟ عن ذلكَ اليوم البارد الذي عشتُ تفاصيله مع أحمد يوم وفاة الملك حسين، عن الأيام الصعبة التي بتُّ انتظرها معهم وهم ينتظرون عفوًا يحررهم، أم عن ذاك التعامل الذي نشبَ بينهُ وبين عبد الكريم الحوراني الذي جعلني أقفُ لساعات أكرر تلك الصفحة التي تُحيي الإنسانية في قلوب من يقرؤون إعادة الثقة إلى السجناء بعدما فقدوها، وإحياء بذرة الخير في أعماقهم وسقيتها بماء المودّة…
ممَّا لفتَ نظري وأنا اقرأ باب حُمّى القراءة ومروري على عناوين كتب تزامنت مع معرفتي لسجينٍ لا أعرف عنهُ شيئًا سوى أنَّه مظلوم في سجون الغربة، أنه كانت زوجته تراسلني لأوفر لها كتبًا من اختياره داخل السجن، لأنني ملمّة بكافة أنواع الكتب وأماكن وجودها…
كنتُ يومها أتساءَل: ماذا يفعل بهذه الكتب؟ ولماذا يختار هذه العناوين كتلبيس إبليس والبداية والنهاية والماسونية في العراء وغيرهم الكثير؟! هل للسجناء مذاقٌ واحد في الانتقاء، وروحٌ واحدة في هذه الحمّى؟!
أذهلني حقًا تصويره لأحمد في هذا الفصل، عندما انتهى من ترتيب المكتبة وأعاد الحياة إليها وجدد أرواح العظماء الذين كتبوها، بوصفكَ هذا، قررتُ تدوين كلَّ اسمٍ ذكرتهُ ليكون معي صديقًا في سنواتي القادمة في سجن الحياة..
(اسمهُ أحمد) لمْ تَكُن مجرّد رواية نقرأها ومن بعدها ننسى تفاصيلها، هي أعمّق مما يتخيل البعض..
كتابٌ اكتسبتُ منه تاريخًا أعادني إلى أعوامٍ مضّت لم أكُن مُهتمةً حينها بالتاريخ..
سَأقرأ ما قُرِئ في السجون بعد أن عشتُ السجن الأكبر في (يسمعون حسيسها) وكنتُ قويةً جدًا في (يا صاحبي السجن) وعشتُ أيامًا عصيّة في (خاوية) وكابرتُ على وجعي في (ذائقة الموت)
وأصبح قلبي حجرًا في (حديث الجنود) وها أنا الآن أقفُ خلفَ أسوار أحمد بأرضٍ خاوية من الجميع وأردد “لن أتعلق بأحد..”
أتعرف أنكَ أذقتني هذه العبارة بنكهاتٍ مختلفة وأصبحتْ مكونًا من صفاتي؟
أودُّ أن أُشكركَ يا قدوةً أعتزُّ بوجودها في عالمٍ لا ثِقة لي به: على تعليمي أنَّ للحرية طعمٌ ساحر، لا يحن إليه إلا من ذاق من كأس الحبس المريرة، على تعليمي أن الإرادة تكسر القيد حتى لو طال زمان الأسر، وأنَّ القراءة والقلم والصبر سلاحٌ نواجه بهِ الطُغاة والمُستبدين..
وأن السجن هو ولادة جديدة، ومدرسة، ومكان يُمكننا من معرفة ذواتنا بمنأى عن الجميع، هو حقًا حرية محاطة بسراب القيود.