وُلدت فكرة اللقاء الثوري السوري قبل ثلاثة أشهر تقريباً إثر إعلان روسيا عن نيتها عقد ما أسمته بداية (مؤتمر شعوب سورية) في حميميم الذي تم تأجيله وتغيير اسمه، لينعقد في سوتشي قبل أيام تحت مسمى (مؤتمر الحوار الوطني السوري).
كانت الفكرة في البداية استثمار الرفض الشعبي الثوري العفوي لمؤتمر حميميم – سوتشي لاحقاً في تنظيم مؤتمر مقابل يعبر فيه السوريون عن رفضهم لمحاولة الروس وأد َثورتهم وتجاوز مطلب الحرية والكرامة الذي دفعوا في سبيله مئات ألوف الضحايا ومسخه في تعديلات دستورية وحكومة (وحدة وطنية) وانتخابات في ظل الأسد تعيد شرعية نظامه وتساهم في إفلاته وحلفائه الروس والإيرانيين من جرائم الحرب التي ارتكبوها بحق السوريين.
كنت أحد المشاركين في النقاشات التي دارت حول هذه الفكرة التي تراوحت بين رأيين: الأول يرى الدعوة إلى مؤتمر وطني ينتج كياناً سياسياً جديداً يمثل الثورة ويتجاوز العطالة التي تعاني منها الكيانات الحالية وخصوصاً بعد مؤتمر رياض 2 الذي ضم منصتي القاهرة وموسكو إلى الهيئة العليا للمفاوضات. أما الرأي الآخر: يرى الدعوة إلى مجرد مؤتمر رمزي يكون بمثابة تظاهرة سياسية تُظهر بطريقة منظمة الرفض الشعبي الواسع لمؤتمر سوتشي وتُوصل رسالة قوية إلى المفاوض باسم الثورة وإلى صانع القرار الإقليمي والدولي مفادها أن الحل السياسي لا يمكن أن يمر بغير انتقال سياسي حقيقي وبغير عدالة تحاسب المجرمين. كنت ميالاً إلى الرأي الثاني خصوصاً بعد فشل عدة تجارب حاولت إيجاد تمثيل سياسي موحد للثورة، فغرقت في المحاصصة وإشكالات التمثيل وضعف الثقة.
أجّل الروس مؤتمر حميميم الذي كان مقرراً عقده في منتصف تشرين الثاني من عام 2017 وبردت همم كثير من الداعين إلى المؤتمر الثوري المقابل لكن النقاش حول ضرورة لم شعث الثورة والمساهمة في تجميع أصواتها المبعثرة لم يتوقف بين الكثيرين أيضاً، كنت في لبِّ هذا النقاش، وكنا نحاول الإجابة على السؤال التالي: كيف يمكننا جمع أصواتنا من جديد بعد ركام من المحاولات المتعثرة التي أدَّت إلى رصيد من الإحباط وانعدام الثقة التي يصعب معها التجاوب مع أي فكرة من هذا النوع حتى بين أشد المؤمنين بالثورة؟!
كيف يمكننا أن نفعل ذلك دون أن نؤسس كياناً جديداً يكرر التجارب السابقة التي لم يكتب لها النجاح؟ في نقاش صريح بين الثوار داخل سورية وخارجها أنصت فيه الجميع إلى الجميع، بدأت بالتدريج تتبلور فكرة اللقاء: تظاهرة سياسية على شكل لقاء تشارك فيه عدة نقاط من داخل سورية وخارجها، تجمع عدداً يبلغ الألف من شباب الثورة وشاباتها، يجتمعون فيزيائياً في كل نقطة وفي وقت واحد، لا يقتصر اللقاء على رفض سوتشي وحسب وإنما يعلن وثيقة سياسية تضع المحددات لأي حل (سياسي)، يتحول اللقاء بعد انعقاده إلى منصة تواصل وتشبيك بين الثوار الذين شاركوا فيه وتكون المشاركة بالصفة الشخصية، فلا يدعي المشاركون تمثيل أحد غير أنفسهم، وبالتالي لا وجود فيه لمحاصصة من أي نوع كانت، ومعايير المشاركة في اللقاء الإيمان بأهداف الثورة والسيرة الحسنة، ويفضل من يتمتعون بالقدرة على العمل الجماعي.
كانت فكرة اللقاء تلبية لحاجة ملحة وهي تحقيق التواصل والتشبيك بين الثوار الذين تفرقوا بين المناطق الخارجة عن سيطرة النظام وبين داخل سورية وخارجها، على أن يتم ذلك بطريقة لا هرمية لا مركزية، وإنما بشكل شبكي أفقي تفاعلي يتيح للثوار في كل نقطة المرونة في اختيار الكيفية التي يشاركون من خلالها في نشاطات اللقاء بما يناسب ظروفهم على أن يكون ذلك في إطار خطة عامة تحقق الأثر الجمعي التراكمي لجهود كل المشاركين.
هدف اللقاء تحقيق التواصل والتفاعل والتشبيك بين الثوار بهدف رفع وعيهم السياسي وإشراكهم في النقاش السياسي وفي اتخاذ مواقف مشتركة من القضايا الوطنية بطريقة شبكية تؤمن التفاعل والمشاركة من الجميع، ثم التحشيد لهذه المواقف حتى تصبح قوة مؤثرة في الرأي العام وفي صانعي القرار. على أن يكون المجال مفتوحاً لزيادة عدد المنضمين إلى اللقاء في كل نقطة ولزيادة عدد النقاط في الداخل والخارج. لا يريد اللقاء أن يمارس السياسة بشكل مباشر، إنما أن يكون صوتاً مجتمعياً شعبياً مدنياً يمثل ضمير الثورة وبوصلتها الأخلاقية، صوتاً يتجاوز حسابات السياسة ومناوراتها وإن كان يعبر عن نفسه بصيغ تجمع بين التمسك بحقوق الشعب السوري وإدراك الواقع السياسي، صوتاً يدعم من يمارسون السياسة باسم الثورة إن التزموا بمبادئها ويرتفع عالياً في وجوههم إن تنازلوا عنها.
حدثت نقاشات كثيرة في أثناء التحضير للقاء، نقاشات بين المشاركين في كل نقطة، ونقاشات بين منسقي النقاط كانوا ينقلون فيها الآراء التي خرجت بها لقاءاتهم المحلية، نقاشات حول تعريفنا لأنفسنا وكيف سنخدم قضيتنا وما الاسم الذي سنتخذه وما الذي يجب أن يتضمنه البيان والوثيقة السياسية. لم نكن متفقين على كل شيء، لكننا اتفقنا على البحث عمَّا يجمع بيننا كأبناء لثورة الكرامة وعلى الإنصات إلى بعضنا البعض حتى نصل إلى هذه الغاية.
اقترح المشاركون أكثر من عشرة أسماء للفعالية التي ننوي القيام بها، وذكر كل صاحب اقتراح مبرراته، ثم اتفقنا على آلية للتصويت على الأسماء المقترحة، وتم اختيار الاسم بناء على هذه الآلية، تلقينا الملاحظات على المسودة الأولية للبيان والوثيقة السياسية من كل النقاط، وعدلنا البيان والوثيقة عدة مرات بناء على هذه الاقتراحات، حتى وصلنا إلى صيغة تسعى إلى إرضاء الجميع قدر الإمكان، سبق اللقاء الموسع لقاءً تحضيريا شارك فيه حوالي ـ100 من شباب الثورة وشاباتها من كل النقاط.
شاركت في اللقاء إحدى عشرة نقطة: درعا والقنيطرة – الغوطة الشرقية – جنوب دمشق – الحولة وما حولها – ريف حمص الشمالي وحماة الجنوبي – إدلب – حلب – عينتاب – استنبول – ألمانيا – الدوحة وبلغ عدد الذي حضروا الاجتماع الفيزيائي في وقت واحد قرابة 500 من شباب الثورة وشاباتها، وساهم في الإعداد للقاء ثلة من خيرة الشباب والشابات الذين عركتهم سنون الثورة بخبرات وتجارب غنية؛ شباب من داريا ومن منطقة الوعر، وأطباء من الغوطة وشباب تخرجوا حديثاً من اختصاصات في العلوم الاجتماعية والسياسية، وأظهرت تجربة الإعداد للقاء وعياً سياسياً وقدرة على العمل المشترك ومواهب شابة تنتظر البيئة المناسبة لتتفتح وتأخذ دورها في بناء مستقبل بلدها. لم يكلفنا اللقاء أكثر مما في جيوبنا من ليرات، ولم نُطلع عليه أحداً من الدول ولم نأخذ بعين الاعتبار غير مصلحة بلدنا وشعبنا.
أهم العقبات التي واجهتنا حالة الإحباط العامة بسبب تعثر تجارب مشابهة في السابق، وانعدام الثقة بين الثوار، والخوف من استثمار أي عمل لمصالح شخصية أو جهات خارجية.
كان الإيمان بالحاجة إلى هذا اللقاء والتواصل والشفافية مع المشككين والمترددين وتفهم مخاوفهم هو سلاحنا الأمضى في مواجهة هذه العقبات.
تم الإعداد للقاء في أصعب الظروف، حيث القصف على الغوطة على أشده بسبب معركة إدارة المركبات، والقرى تتساقط تباعاً في ريف حماة الجنوبي وإدلب، لكن المشاركين أبُوا إلا أن يثبتوا أن الرهان على يأسهم وهزيمة معنوياتهم هو رهان خاسر، ولسان حالهم يقول: لن نخون دماء الشهداء فنتخلى عن القضية التي دفعوا حياتهم ثمناً لهم، نحن لسنا شعوباً متناحرة، إنما شعبٌ حرٌّ كريم تكالبت عليه قوى الظلم لتجهض سعيه نحو الحياة التي يستحقها، لن يتوقف سعينا إلى نيل هذه الحياة حتى آخر نفس في صدورنا، ومن هذه المنطقة من العالم ومن بين الدماء والخراب سيولد النموذج الحضاري الذي يعبر عن هويتنا، وسيبزع فجر يضيء للبشرية معاني جديدة للكرامة ترتقي بها إلى أفق آخر لم تدركه من قبل.
3-2-2018