صرت أسمع صرخاتها بوضوح تحت التعذيب، ربما صار عمري سبعة أشهر في بطنها، ما أزال جنينا وقلبي لا يحتمل ألما.
يتمزق قلبي الصغير وهم يجرون أمي على الأرض نحو بيتنا العتم الذي يشبه القبر، نحو الزنزانة الانفرادية، وأحيانا نعبرُ إلى الزنزانة فوق جثث المعذبين المتروكة في الممر الضيق الطويل، فيزداد عذابنا وهلعنا.
كثيرا ما كانت أمي تكلمني بحنان وأنا اسمع ضربات قلبها الموجوع وأنصت لقهرها وحزنها، يدها المرتجفة تمرُّ بلطف على بطنها كأنها تلمسني: “صغيري، يا مهجة قلبي: هل تشعر بما أشعر به؟ هل تتألم وتبكي معي؟ أتراك تولد هنا؟ أم أننا سنغادر هذا القبر سوية، أم ربما نموت معا وندفن هنا ؟!”
لحظات صمتٍ قاتلة، تنهار أمي بعدها باكية مع صوت أنين يهز العالم، لو كان العالم يسمع!
أمي (مريم) أشعر بها بعمق وأحبها، طيبة القلب، حنونة جميلة، لم تبلغ بعد الثالثة والعشرين، تدرس في كلية الحقوق، تزوجت أبي قبل ستة أشهر من اعتقالها، وحين بدأت الثورة كانت رفيقته في كل خطوة، نهارا تهتف معه في المظاهرات السلمية في مدينة حماة، وليلا ترسم معه حلم الكرامة.
وفي يوم (مجزرة الحرية) التي راح ضحيتها 750 متظاهرا، استشهد أبي أمام عيني أمي برصاصة اخترقت رأسه، عندما فتحت قوات الأسد النار على المتظاهرين وأيديهم لا تحمل سوى أصابع النصر.
بكته أمي بدموع لو قدر لها لأغرقت العالم، ثم نفضت حزنها وراحت تسعف المتظاهرين وترعى جراحهم في المشفى الميداني بمنطقة الحميدية، كان عمري حينها أقل من ثلاثين يوما، وكنت أسمع صرخات الألم وأنا أسبَح في عتمة الرحم والظلمة.
بعد أن مضى على عمل أمي في إسعاف المتظاهرين ما يقارب أربعة أشهر، قررت زيارة أهلها، وهنا بدأت مأساتنا، فبعد وصولها إلى بيت جدي بساعات قليلة اقتحم عناصر الأمن البيت واعتقلوها بطريقة وحشية ووضعوها داخل المصفَّحة.
لم تكن وحدها، كان هناك أخريات بينهنَّ سيدة تبدو في عمر تجاوز الخمسين كانت تبكي بحرقة.
في المساء تم اختيار بعض المعتقلات وسحبوا كالنعاج للذبح على يد (المقدم) الذي وجهه كحفرة عميقة يصرخ في داخلها فتيات ونساء أجسادهنَّ تنتفض، ودموعهنَّ ماتزال تفيض.
ليس هناك سكين حادة في يد (المقدم سليمان) لكن أصابعه كانت تقطر دما!
ولو كان الذبح حقيقيا لكان أشرف وأكثر رحمة! إنه لا يذبح بالسكين، بل يقطع أوصال ضحاياه من المعتقلات على سرير نجس بطريقة أسوء من الموت بألف مرة، في داخل مكتبه يوجد باب يوصل إلى غرفة أخرى داخلها سريران تفوح منهما رائحة نتنة، وطاولة مشروبات كحولية، كان المقدم سليمان يعزم عليها للمشاركة في اغتصاب المعتقلات.
إحداهنَّ تناوب على اغتصابها في ساعة واحدة أربعة من بينهم (العميد جهاد)
أنا جنين في رحم أمي، وأمي في ظلمة المعتقل، لن أروي لكم أكثر، قلبي الصغير توقف قبل أن يسوقوا أمي إلى غرفة الذبح.
تخيلوا الآن كلَّ تفاصيل الألم والقهر والعار والخزي واليأس، وأضيفوا إليها الشتائم والضرب بالسياط، والجوع والبرد والتعليق من اليدين لساعات طويلة.
أضيفوا كل هذا العذاب إلى مشاعركم، واجلسوا بمفردكم كل يوم عشر دقائق في غرفة باردة ضيقة معتمة وتخيلوا – آسف جدا من جرأتي – أن هذه المعتقلة فوق سرير الاغتصاب هي إحدى أقرب الناس إليكم!