أتممت سبع عشرة سنة من عمري ومضت أيام قليلة بعدها، لأجد نفسي في عتمة سجن تدمر محاطا بوجوه لن أنساها ما حييت، وذكريات تنمو وتكبر كلما تقدمت بالعمر، حين رأيت ضوء النهار حُراً بعد ما يزيد عن خمسة عشر عاما في المعتقل كنت قد تخطيت عتبة الثالثة والثلاثين.
خطوت خطواتي الأولى خارج السجن، وطوال الوقت تنقر ذاكرتي كلمة راح.. راح، مقطعٌ من أغنية لأم كلثوم يعتصر روحي، يزيد وجعي، يمزق قلبي حزنا وأسفا، كانت الأغنية الوحيدة التي تبث عبر مكبرات الصوت في سجن يبدو أبديا، لتثير عذابنا وتجعلنا نبكي دما كلما سمعنا: راح …راح …راح!! تكررها أم كلثوم مستعدية أوجاع الحب في ساعات هجر المحبوب، لم يخطر ببالها أبدا أن تصدح مكبرات الصوت بأغنيتها في معتقل يضم آلاف المعذبين يشتهون لحظة حرية وكرامة ويزيدهم وجعا معنى لم يقصده الشاعر حين كتب بلهفة العاشق المحروم: (أد أيه من عمري قبلك راح، راح وعدى يا حبيبي، أد أيه من عمري راح، ولا شاف القلب قبلك فرحة وحده.. ولا داق من الدنيا غير طعم الجراح …!!) ما أصعب البكاء على عمر راح!! في سجن لا تعرف جدرانه الرحمة ولا يعرف جلادوه شفقة!!
أتساءل الآن وأنا أتخطى عامي الخمسين: كم كان صبرنا عظيما وجرحنا نازفا ونحن نسمع (ولا داق من الدنيا غير طعم الجراح؟!!)
تتحول الجراح إلى بسمة أمل كلما خطونا يوما إضافيا في هذه الحياة التي أغلقت أبوابها في وجوهنا نحن خيرة الشباب من مهندسين وأطباء وجامعيين عباقرة، لكننا زرعنا الصخر ورداً وملأنا الشوك عبيرا.
جميعنا خرج من المعتقل شخصاً يعادل ألف شخص، إنساناً عميقا كبحر لا شاطئ له.
طوال سنوات السجن تناقلنا خبرات بعضنا بعضا، استمعنا إلى ملايين القصص المعبرة والمؤثرة والموجعة والفاضحة.
قصص حفظتها جدران سميكة لا تجيد فن النطق والتعبير، لكنَّها تحفظ أسراراً وأخباراً لو قدر للحجر يوما أن ينطق لقال العجب العجاب ولخطف العقول والألباب.
سجن تدمر تاريخ من الألم والحرمان، ومزيج رائع لأصوات كتبت أناشيدها بأقلام الخشب وغنتها بحنين لا يفهمه إلا الملائكة، أصوات رتلت آيات القرآن الكريم وحفظت سوره جميعها غيبا وحبا وأملا وشفاء.
قامات عالية غيبها المعتقل لسنوات طويلة بعضهم رحلوا شهداء الصبر والعزيمة، وبعضهم بقي حيًّا، وجاء موعد إخلاء سبيله، فخرج جبلا من شموخ وعزة وإيمان، متيقناً بعدالة إله لا يضيع عنده مثقال ذرة.
بينما يرحل الطغاة الظالمون كجيف قذرة ملوَّثين بجرائم لا يغفرها الله ولا البشر، تلعنهم حناجر المظلومين وتدوسهم أقدامهم، يخلدون في سجل الظالمين في الدنيا، ويخلدون في نار جهنم في الآخرة.
ويلٌ لهم، ويلٌ لهم، ويل لهم من عذاب أليم، وهنيئا لنا، نحن المعتقلين الصابرين، جنةً عرضها السنوات والأرض.