كثيرٌ مما يفعلهُ الأطفال في حياتهم اليومية وما يدور في أذهانهم من أفكار ينجزونه كتصرفات ببراءة أعمارهم، غير أن أطفال سورية أصبحوا غير بقية الأطفال، وذلك بسبب حرب أنضجتهم، وعلمتهم الكثير وأنهكتهم رغم صغر سنهم، وفرضت عليهم العمل وترك المدرسة …
من بين هؤلاء الأطفال السورين الذين واجهوا الحرب بقسوتها وويلاتها،الطفل أحمد البالغ من العمر ثمان سنوات، كان يهوى الرسم منذ نعومة أظافره، لتتحول هوايته هذه إلى لقمة عيش له ولأخوته، بعدما فقد والديه وفقد طعم الحياة معهم بقذيفة حرب دمرت له أحلامهُ البريئة.
بين الأبنيةِ المهدمة وغبار الحرب، خلف جدران العالم، وبين مطبات الحياة، افترش أحمد أحلامه وهِوايته على أرض الواقع، رسومات خطها بدموع مآقيه، وظللها بسواد أيامه. كان يرسم اللوحة بغرض التسلية في حضن والديه الدافئين، أما الآن يرسم بزمهرير قلبه ليبيع ويكسب رزقه من عرق جبينه.
لم يفكر أحمد ولا بأي حال أن ينخرط في ذلِ التسولِ وحرمانية السرقة، لم ينتظر أن يُشفق عليه أو يُقدم لهُ إعانة، بل اعتمد على ذاتهِ وتوفيق ربه مقتنعاً أن رسوماته تستحق الشراء.
لم يكتسب أحمد هذه الفكرة من غريزته، فأثناء جلسة عائلية في غرفة المعيشة يتداول والدا أحمد الحديث حول الطفل السعودي الملقب بـ “معاذ” هذا الطفل اقتبس منه أحمد هذه البطانة.
في ذاك اليوم احترقت وجنتا أحمد واشتعلت عيونه بدموع على معاذ الذي تعبر حياته التي عاشها كحياة أحمد الآن بل أحمد أشد قسوة.
معاذ أصبح رساماً مشهوراً بسبب تبني أحد الفنانين له، فنمَّى لديه تلك الموهبة المغروزة في نجواه.
لم يعتقد أحمد أن يكون بمكان معاذ في يومٍ من الأيام، لكن مشقة الحياة جبرته على الكثير.
معاذ لاحظه الكثير من الناس، وشغلتْ قضيتهُ بلدته كلها، والتفتت حوله الأعين، اشترى العديد من الناس رسوماته، وهذا ما أعطاهُ دافعاً إيجابياً إلى جانبه النفسي قبل المادي.
تذّرع حقاً أو أيقن أن لوحاته جميلة إلى قدر يدفعُ الناس للشجار حتى يشاهدوا لوحاته، وهكذا استطاع معاذ تخطي صعوبة أيامه بمساعدة من حوله سواء بشيء مادي أو معنوي.
أحمد لم تكفه صراع أيامه وتحدي ظروف حياتهِ، وسخرية الأطفال ممن حوله، وبعضهم لم يكترث لوجوده قطعاً، فهو يسعى لرزقه بين الحجارة، وخلف الحواجز، يبدو أن من حوله فقدوا نصف إنسانيتهم، إذ لم تعد تلك المواقف تثيرُ انتباههم لما شاهدوه من فجعات الحرب.
عاد بلوحاته إلى منزله شبه المهدم منعدم الحياة ومكسور الوجدان والخاطر، تمتم بحزن قائلاً: “يبدو حتى أنتِ يا رسوماتي دُفنتِ بقذيفةٍ بشريّة لا تعرف الرحمة”.
لم يكن أحمد الطفل السوري الوحيد الذي واجه ويلات الحرب، آلاف من الأطفال السورين يعيشون بنفس حالته لكن بطريقة أُخرى، تهدمت هِوايتهم وأحلامهم بسبب الحرب وأمسوا المُعينين لما تبقى من أفراد عائلتهم.
أما عن رسومات أحمد فكانت عبارة عمَّا فقده من حنان أمٍّ وعطف أبٍ، العديد من اللوحات تتحدثُ عن حياته التي باتت واقعاً مزعجا يهدد أغلب الأطفال السوريين.
أيقعل أنه يرسم في غموض ليلٍ أمّا تعد له طعاماً يُسكت زقزقة بطنه، وأباً يجلبُ له ملابس جديدة تدفئ عظاماً يأكلها الزمهرير في كل ليلة ماطرة بدلاً من تلك الملابس التي يلبسها على جسده التي أغلبها مرتياً؟!
ألم يوقد هذا الطفل ورسوماته مشاعر الشفقة أو حتى مشاعر الحزن لدى البشر؟!
أي قلب يتملكونه أهو حجر؟! ألم يتعاطف لأمره مخلوق؟
لا جدوى من كل ذاك، فالحرب سرقت ضميرنا الإنساني، سرقت مشاعرنا، سرقت أحلامنا .. اللعنة علــــى الحــرب، لكن رغم قسوتها أنضجت الكثير وعلمتنا الكثير.
لا يجب أن نقف أمامها مكتوفي الأيادي، بإمكاننا المواجهة، بإمكاننا الصمود، لنبتسم لها ببرود ونأخذ إيجابيتها ونرمي بسلبياتها، ننهض بهذه الأمة، ونساعد أمثال أحمد، ونحرك الضمير الإنساني.