رجالات السلطة هم قدوة لعامة الشعب، لأن جمهور الناس مقلد للأقوى، ومستعد للتنازل عن شخصيته لصالح شخصية الزعيم بما يشبه التقمص والذوبان، فصاحب القوة وإن كان على باطل فالناس مستعدة لأن تتبعه، بينما صاحب الحق وإن كان ضعيفا فلا يغري أحدا باتباعه.
ربما من خلال هذا التقديم المبسَّط بتنا نفهم سبب الانحدار الأخلاقي المريع للشعب السوري الذي حصل بعد انقلاب البعث واغتصابه السلطة، فرجالات البعث فاسدون مفسدون في الفكر والسلوك، ووجودهم في مفاصل الدولة يعني مأسسة الفساد، وتقنين الجريمة، إذ تمَّ تنظيم هذا الفساد بالقوانين الضابطة لاستمراره وانتشاره، ثم جاءت الثورة لتحمل كثيرا من الناس من المراتب الاجتماعية الدونية والمهمشة، لتضعهم في صدارة السلطة والقرارات، فاستمرت مسيرة الانحدار بتولي غير ذوي القوة والأمانة.
ولعل من مظاهر الفساد التي رأيناها كثيرا بالثورة السورية كنتيجة لما سبق ظاهرة التعدي من قبل المقاتلين على الأموال والممتلكات العامة والخاصة بذريعة أو دون ذريعة، أو ما يعرف محليا بالتشويل أو التعفيش،
لكن ما لا يعرفه أغلبنا أن الفضل بسن ونشر هذه السنة السيئة قبل سنوات من قيام الثورة هو النظام السوري أيام تدخله في لبنان بداية من عام 1976، فشجع حينها على السرقات واغتصاب أعراض المدنيين وأموالهم وسفك دمائهم، وبالتدريج تحولت هذه الأمور إلى ممارسات اعتيادية للجيش السوري العقائدي في أي منطقة لبنانية يدخلها بغض النظر عن طائفة أهل المنطقة.
في الثورة السورية أعاد النظام عبر شبيحته تذكير السوريين بتلك الممارسات، وأعاد سن هذه السنة السيئة على أيدي مرتزقته في أول الثورة، وشيئا فشيئا بدأ ضعاف النفوس والمفسدون المتسترون باسم الجيش الحر باقتباس هذا الفن الرفيع (فن التعفيش) والعمل على تطوير أساليبه، وتنويع إستراتيجياته.
أسباب انتشار هذه الظاهرة كثيرة، لعل أهمها غياب أي مؤسسات قانونية تفرض هيبة العدالة على المجتمع، وتنزع الحق من القوي لترده للضعيف، مع وجود بعض القادة الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، وضعف الوازع الديني والأخلاقي نتيجة حالات الفقر والتهجير المستشرية في مجتمعنا، وأيضا ثقافة الاستهلاك والشحاذة والقضاء على الكرامة عبر تكريس الإغاثة.
ومن الأسباب المهمة لانتشار التعفيش إقصاء بعض الفصائل لدور الدين في بناء شخصية مقاتلها، فالفصائل التي اشتهرت بالسمعة السيئة والتجاوزات ومن ضمنها التعفيش هي فصائل تقوم بشكل مقصود بإقصاء الدين، إما كرد فعل على التنظيمات السوداء التي استغلت الدين وشوهته في سبيل مآربها، أو تبييضا لصفحتها لدى الجهات الخارجية الداعمة، أو لأن قائد الفصيل يدرك تماما أن العنصر الملتزم دينيا لا يُرضى به قائدا، وبالتالي يحرص على جعله مرتزقا مجرما.
ظاهرة التعفيش وغيرها من التجاوزات تشكل عائقاً كبيراً للشرفاء عن إكمال مسيرة الثورة. ولمن يبحث عمَّا يرضي الله ثم ضميره، ويتذرع أنه يريد الإصلاح لكن لا يقدر، أقول له: إن هروبك أو هروبكم أو هروبي أو هروبنا من المشكلة هو تعقيد لها وليس حلاً، فلو وُجِدَ المصلحون (مصلحون وليس صالحون) واختلطوا بالناس، وصبروا على أذاهم، واحتملوا المكروه في سبيل ذلك، وقدموا للعامة على الأرض قدوات واقعية حية في الأخلاق والتعامل، بدلا من التنظيرات الحالمة، والشعارات الخيالية، لتراجعت نسبة الإفساد بشكل كبير.
نحن بعمومنا فينا الداء والدواء، وإن لم يفعّل فينا كل شخص نفسه، ويقوم بواجبه الإصلاحي في ظل غياب المؤسسات، فسيستمر سقوطنا الأخلاقي المروع، وانحدارنا القيمي الرهيب إلى ما هو أفظع وأشنع مما حدث في عفرين، ومع ذلك فإن ما حدث في عفرين رغم قتامته إلا أنه يملك إيجابيات بداخله من عدة أوجه:
1) ما حصل في عفرين أثبت أن نخبنا الثورية ومرجعيات الثورة وأبناءها الشرفاء لم ينحدروا إلى مستوى غيرهم من المرقِّعة والمنافقين في السكوت عن أخطاء من يحسبون عليهم.
2) ما حصل في عفرين ولّد موقفا واحدا عند كل الثوار وجمعهم وجدد روح قضيتهم المركزية الأولى وهي رفع الظلم، وخاصة أن ذلك حصل في نفس تاريخ أيام الثورة الأولى.
3) تجاوزات البعض من المحسوبين على الجيش الحر ليست سياسة ممنهجة كما الحال عند النظام، بل هي تصرفات دخيلة تتعارض مع روح الثورة وأهدافها ويرفضها كل أبناءها وهذا ما حصل فعلا، وأيضا لم تلبس لبوس الدين لتعطي القدسية عن النقد والمحاسبة لمن قام بها، وهذا من أعظم الإيجابيات.
4) ما حصل أعاد روح الشجاعة الأولى للثوار في رفع الصوت وانتقاد الفساد والمفسدين، وأسقط هيبتهم من نفوس الناس، وشجع الثوار على القيام بعمليات تقييم ومراجعة ونقد ذاتي لتصحيح المسار الثوري.
5) انتشار حالة التبلّد المشاعري للثوار ضد التجاوزات في الثورة، استلزم لعلاجها صفعة صادمة تنتشلنا من سكرة هذا التبلّد وهذا ما حصل تماما في عفرين، وسنرى بناءً على ذلك بإذن الله في الأيام القليلة القادمة ما سيثبت صحة هذا الكلام.