لا شك أن ما حصل في الغوطة يدمي قلب كل ثائر حر، لكنه ليس النهاية مهما بدا كذلك، إنه نتيجة طبيعية لاختيارات خاطئة قمنا بها، إن عدلّناها إلى صحيحة ستعود علينا بتغييرات لصالحنا.
وبتلخيص سريع للمشاكل التي سببت لنا هذه الطامات، وسبل علاجها، نجد التالي:
1) وجود التشرذم، وحله مشروع وطني جامع يقوم على أسس واقعية وعقلانية قابلة للتطبيق، ويحمل أهداف الثورة دون مساومة على مبادئها.
2) غياب العدالة والمحاسبة للمفسدين والخونة والمقصرين، وعلاج ذلك بوجود مؤسسات قضائية ثورية تحكم بالعدل، وترد الحقوق، ويعضدها مؤسسات تنفيذية تواجه بالعنف الثوري كل من يمسُّ أمن الثورة واستقرارها.
3) ولاية السفهاء والضعفاء، ودواؤها انتخابُ الثوار لمن يحقق صفتي القوة والأمانة لتولي المناصب القيادية، مع وجود مؤسسات دعم قرار كمراكز دراسات وأبحاث ومجالس شورى من المؤهلين لذلك، ومؤسسات رقابية يقوم عليها أصحاب دين وأمانة وتخصص، لتحفظ حق الثورة، ويكون لديها الشرعية لعزل ومحاسبة المقصرين والمسيئين.
4) انحراف الثورة عن أهدافها لصالح أهداف غيرها، نتيجة الدعم المسيس، أو شراء الذمم، أو انعدام الخبرة السياسية والقيادية، وحل ذلك بتحرير قرار الثورة من يد المتحكمين من الداعمين والحلفاء والقيادات اللاهثة وراء مصلحتها، وجعل هذا القرار بيد من يحفظ مصلحة الثورة الاستراتيجية.
المشكلات السابقة أسباب مهمة لانحسار الثورة عن مناطق ذات ثقل، كحمص وحلب ودمشق وريفها، والحلول التي ذكرناها، وإن بدت تنظيرية خيالية للبعض، هي الطريق الوحيد لاستعادة ما فقدناه.
وحتى لا يبلغ بنا اليأس مبلغه أذكِّر إخواني بعظم النتائج التي حققناها رغم أخطائنا، فإن أدت كثرة النكبات التي نزلت بنا إلى عجزنا عن تقييم مسيرتنا، فدعونا ننظر إلى ردة فعل عدونا على ما فعلناه.
الثورة السورية أدت إلى حالة غير مسبوقة من الوعي في الأمة، إذ كشفت للناس شخصيات ومؤسسات وأنظمة لطالما ظل العالم مخدوعا بها لسنوات طوال، وحررت نسبة كبيرة من البشر من ربقة النظام الدولي عبر نجاحها في إنشاء مناطق تمرد عليه لا تحكمها منظوماته ( المناطق المحررة )، في هذه المناطق انتشرت الأفكار التحررية التي كانت محظورة ومحاربة، وانتشرت التربية لجيل يعوّل عليه في التغيير.
ملف الثورة السورية هو أعقد ملف من الحرب العالمية الثانية إلى الآن، دفع بالدول لتغيير خريطة تحالفاتها، وزج قواتها العسكرية بشكل رسمي وسافر على الأرض، لأن حرب الوكلاء، وصراعات الاستخبارات، ومناورات السياسيين لم تعد تجدي نفعا، وربما قريباً تشتبك هذه الدول على أراضيها بحروب مدمرة.
الانتفاضات التي تخرج كل فترة في إيران، والصراع الدائر حول الملف النووي الإيراني، وتدافع الدوائر الحكومية الأمريكية التي ظهر عمق الشرخ بينها على العلن في حكم ترامب، والحرارة المتزايدة بين روسيا وجيرانها الأوروبيين، وحصار قطر من أشقائها، ومحاولة الانقلاب التركية الفاشلة، كل ذلك هزات ارتدادية لزلزال الثورة السورية التي ينتظر الجميع نتائجها.
من الأمور التي تسبب لنا اليأس أيضا هي ظننا أن ما نمر به، رغم قساوته، أمر عجيب وغريب في تاريخ الإنسانية، لكن الأصل بالثورة العشوائية والتخبط، والأصل في “النظام ” الانضباط والتماسك، وكلما اتجهت الثورة نحو التماسك والانضباط، اتجه النظام للتحلل والتلاشي، وثورات الياسمين لا تثمر إلا حكما أقسى مما كان، ووحدها ثورات الدم والدمار والدموع هي من تلد النصر الحقيقي الصلب.
قد يرى البعض أن الثورة متخلفة بمسافات شاسعة عن اللحاق بمشاريع ناجحة، كالنظام التركي المتمثل بحزب العدالة والتنمية، أو حركة حماس مثلا، والجواب على ذلك أن ثورتنا بدأت من اللاشيء، فلا يوجد للشعب السوري بعمومه أي خبرة سياسية أو عسكرية أو قيادية مسبقة، كنتيجة طبيعية للحكم الشمولي البعثي، والثمار التركية التي نراها تجنى اليوم هي حصيلة لعشرات السنوات المرّة من أيام سعيد بيران والنورسي، مرورا بالشهيد مندريس، وانتهاء بالمعلم أربكان، ومع ذلك نجد أردوغان يمشي بتؤدة وحذر، ولا يحرق المراحل للوصول إلى الهدف.
أما حركة حماس فعمرها التنظيمي حوالي ثلاثين عاماً، وعُمر الجهاد الفلسطيني الذي كانت حماس بنته البارة ما يقارب 70 عاماً، والخبرة التاريخية تعتّق المواهب القيادية، وتشحذ ذخائر المواجهة عند الشعب، ولذلك ما نمر به من أخطاء، ومحن، طبيعي في حركة أي شعب، ولكنه يبقى غير مقبول، ويحتاج إلى إصلاح.
لنتذكر أننا أول الثورة كنا أضعف مما نحن عليه اليوم، وكان النظام أقوى مما هو عليه اليوم، لنتذكر أننا لم نكن نملك لا الغوطة ولا حلب ولا حمص، ولم نحرر في البداية أي شبر، ثم حررنا كل تلك المناطق وانتصرنا بمعارك، وهزمنا في أخرى، فحالنا كمن كان مقيدا مغلولا، فحطم قيوده وسار خمسين خطوة، ثم دفعه أعداؤه للتراجع أربعين، فبكى عحاله، ونسي أنه قد نجح مسبقا نجاحا باهرا في تحطيم الأغلال والسير عشر خطوات، والأغلال إن تحطمت فمحال أن تعود ..