تتعالى الأصوات اليوم في لوم من وقف في وجه الظلم والفساد، وقاوم الاستبداد والطغيان، وطالب بتغيير يعيد إلى الإنسان حريته وكرامته. بعض هذه الأصوات كانت محسوبة على المعارضة المطالبة بالتغيير، لكنها اليوم تحولت من نقد سلوك الأجهزة الأمنية ونظام الاستبداد إلى انتقاد من رفع صوته مطالبا بالتغيير والإصلاح. الجهود لإعادة كتابة تاريخ الثورة السورية وفق رواية النظام بدأت فعلا، لكنها جهود ستكون عاجزة عن حجب الحقيقة التي عاشتها الأغلبية السورية على مدار سبع سنوات، وستعيشها بأشكال مختلفة على مدار السنوات السبع القادمة، كعجز الغربال عن حجب الشمس الساطعة في وسط النهار.
نعم ارتكبت قوى المعارضة والثورة الكثير من الأخطاء، ولعل أكثر أخطائها ضرارا على مطالب التغيير، صراعها البيني، ومحاكاة أساليب النظام في تعاطيها مع خصومها السياسيين. لكن الخطأ الذي يستحق التنديد اليوم هو اختيار النظام الحرب على الأغلبية السورية لتحقيق مصالح شخصية وحزبية وطائفية وفئوية على حساب المصلحة الوطنية المشتركة، والاستعانة في ذلك بالقوى الإقليمية والدولية.
نعم المسؤولية في وصول البلاد إلى ما آلت إليه من أوضاع مزرية مسؤولية يتحملها جميع السوريين على اختلاف مواقعهم. يتحملها من واجه المطالب الشعبية المحقة بالحديد والنار، ومن اختار الانتفاض على الاستبداد لكنه عجز عن تجاوز عقلية الاستبداد والتسلط، كما يتحملها من اختار الصمت أو الجلوس في مقعد المتفرج الناقد. فالجميع ارتكب أخطاء في التعامل مع الصراع السوري، وهي أخطاء تتطلب الكثير من البحث والدراسة والتحليل لفهمها ومنع تكرارها في المستقبل. المسؤولية مشتركة لكنها ليست متساوية. علينا جميعا أن نتذكر أن المسؤولية الأولى والكبرى هي مسؤولية النظام الذي اختار الصراع مع السوريين والتحالف مع أعدائهم، ورفض كل مبادرة للوصول إلى حل سياسي ينهي الصراع المسلح ويعيد اللحمة بينهم.
الحسم العسكري لصراع هو في أصله وجوهره صراع سياسي بامتياز لن يحل المشكلة التي ولدت الصراع بل سيزيدها حدة. وسيكتشف من كان يظن أنه قادر على تجاهل إرادة التحرر وارجاع عقارب الساعة إلى الوراء أنه واهم في ظنونه. الثورة السورية، حالها كحال ثورات الربيع العربي، غيرت الخريطة النفسية للمنطقة العربية، ووضعتها على مسار تغيير ستظهر تداعياته خلال الشهور والسنوات القادمة. وستدرك النخب المنافحة عن الاستبداد والفساد أن الثورات المضادة لم تكن في يوم من الأيام قادرة على وقف حركة التغيير السياسي لأن الأثر الأول للثورات يكمن في تغيير الوعي الاجتماعي والخيال السياسي، وأنها بسلوكها العدواني والفئوي تكرس أثر ثورة الحرية والكرامة وتعمق جذورها.