لا أحبّ الكتابة عن الأشياء في بداياتها، إنما أنتظر حتى يهدأ الضجيج حولها، لأحاول أن أفهم تحديداً كيف جرت الأمور على شاكلتها.
لقد كان تهجير أهلنا في الغوطة قاسياً علينا جميعاً، لقد عشنا لحظات مشابهة، ونعرف مرارة ألمها جيداً، لكن ما أشعرنا حقيقة بالعزاء، هو ذلك الموقف الذي لم نعتبره غريباً على شعبنا السوري، لكننا كنا نخشى أن المحنة قد جبلتنا بشكل قاسٍ أمام كل شيء، فلم يعد في الصدور إلا بعض الصخور وإرادة الثأر. وجلافة صرنا نحسها أمام الموت فلا تحركنا الدماء ولا تدمع أعيننا للمصائب مهما استعظمت.
خشينا حقاً أننا خسرنا تلك العواطف، وذلك الحنان في القلب، خشينا أننا سنستقبل أخوتنا بشيء من عدم الاكتراث، فقد جرى الموت والتهجير علينا جميعاً، خشينا أن الحرب اللعينة قد أحرقت فينا كل شيء.
لكن السوريين (أهل الحرية والكرامة) قد لانوا كأنهم ما امتحنوا بالقسوة يوماً، وتداعى الجسد إلى أعضائه، وربتت الأكف على الأكتاف أي أخي: إننا من هذا التراب وهذه الأرض لكم قبل أن تكون لنا.
بهذه العبارات وأمثالها من الأفعال التي تشرف الإنسانية كلها من شعب مكلوم يتعرض للحرب والمجاعات، أستقبل أهل الشمال أخوتهم المهجرين من الغوطة، ليرى العالم أنهم عندما طالبوا بالحرية والكرامة والإنسانية، إنما هم أهلها وحماتها الحقيقيون، لم تغيرهم قسوة الحرب، ولا الموت الذي عمهم أينما كانوا، فالجرح واحد على امتداد هذا الوطن، ينزف من أهله جميعهم ويحتضنون ألمه جميعاً.
لقد انتصر الشعب، وانتصرت إرادة القيم التي كنا نحلم بها، أمّا الحروب فخذوها كما تشاؤون، فإن شعباً كهذا لا يهزم في الحروب مهما استطالت، لكنها جولاتكم التي ستذوقون وبالها يوماً ما، عندما يعدُّ المهجرون عدّتهم للعودة، فأرضهم ما تزال تسكن مآقيهم، ولم يغادروها إلا برهة من زمان.
ها هم يشدون العزائم، ينظمون الصفوف، يضمدون الجراح، يسلمون الأمانة للصغار حتى يكبروا بها، ليسوا بعيدين عن حلمهم، وإن تحالفت عليهم الأرض وضاقت بما رحبت، فآمالهم ستسعهم، ولن يتركوا العمل والجهاد أبدا.
انتصر الشعب .. وانتصرت القيم .. وسينتصر الوطن كاملاً .. وما ذلك ببعيد.
المدير العام | أحمد وديع العبسي