” كلُّنا خرجنا من معطف غوغول” بهذه العبارة القصيرة يختصر الكبير (دويستويفسكي) درجة تأثير قصة (المعطف) لـ (نيكولاي غوغول) في الكُتَّاب الذين جاؤوا بعده، فكلُّهم أخذوا شيئًا من دفء معطف غوغول ودفء أسلوبه، ثم خرجوا منه، ليكوّنوا عالمهم الخاص، ربما خرجوا لتلفحَ الرياحُ السيبيرية وجوههم، وليقضوا شطرًا من حياتهم بلا معطف، لكنهم في النهاية نسجوا بكلماتهم معاطفهم الخاصة، أما الذين بقوا في معطف (غوغول) ولم يتجرؤوا على الخروج فقد أصيبوا بالتعفن ودُفنوا داخله، كما دُفن آلافُ الشعراء العرب الذين تحولوا إلى رماد وهم يختبئون في دشداشة المهلهل أو خيمةِ امرئ القيس أو قبّة النابغة.
ربما لا تروق عبارة (دويستويفسكي) لأولئك الذين يعتقدون أن الأديب يخرج من رحم أمه أديبًا، يرث الإبداع من أبيه كما يرث لونَ جلده ونبرة صوته وملامح وجهه، وأن الشاعر يصمم (ديكور) قصيدته من دون أن يطلع على قصائد الشعراء الآخرين، لأنهم جميعًا يدفنون مخططاتهم الهندسية لكيلا يعثر عليها أحد فيستفيدَ منها. لا شك أنَّ هذا المنطق مخالف لطبيعة الحياة ونواميسها، ولو كان عالم الأدب والفن كذلك لبقينا ندور حول أنفسنا كالدراويش.
أريد أن أصلَ معكم إلى حكمٍ ربما يكون شاعريًّا، وهو أن كلَّ قصيدة عربية في عصرنا، قبل أن تتمدد على الصفحة البيضاء سافرت إلى دمشق، ودخلت منزلًا قديمًا في حيِّ (مئذنة الشحم)، وطافت حول بحرته التي تتوسط باحته، ثم دخلت غرفة الشاعر الذي كان يسكن هذا البيت، فسرَّحت شعرَها، وقلَّمت أظافرها، وطيَّبت حروفها، ثم خرجت إلى الجمهور بكامل أناقتها وغنجها وفتنتها. فكما خرج الكتاب الروس من معطف (غوغول)، خرج الشعراء العرب في العصر الحديث من بيت الشاعر نزار قباني، وخرجت قصائدهم الجميلة من جيبه المملوء بأقمار الياسمين.
يقف نزار قباني علامةً فارقةً في ديوان الشعر العربي، يخرج على النموذج العام، يوجد محبوباتٍ لم يعرفهنَّ التاريخ الشعري، يهجر منازلَ سعاد ورباب وميّة وعُنيزة، ويفتح باب القصيدة لـ مايا ودونيا ماريا وجانين وآنالزيا دوناليا، فيتخلص الشعر من عقدة الصحراء، ويتحرر من الأرداف الثقيلة والسيقان الممتلئة، وعيون المها، والشَّعر الذي يشبه قنو النخلة. يتحدث نزار عن الحب بعمومياته وخصوصياته، ويرسم ما يمكن تسميته بالعشق المعاصر، فيدخل في تفاصيل العشق اليومية، ويستخدم الكلمات البسيطة بعد تشكيلها على نحو يقترب به من جمهوره. إنه يكتب قصائده في الهواء الطلق، ويغيّر صوتَه وجلدَه كلَّ يوم، لأنه يعتقد أن عدم تغيير طريقة ركضه وسرج فرسه سيجعله يسقط تحت حوافر الخيول المتسابقة، والمهم في ذلك أنه جعل الناس هم بدايته ونهايته، فكانت قصيدته كما يقول قُبلةً ينفذها اثنان: الشاعر وجمهوره. من أجل ذلك دخل نزار كلَّ بيتٍ وقلب، ويمكن أن نقدم فرْضيةً مجنونة، وهي أن جميع الذين يكرهون نزارًا يحبونه أيضًا، ويحفظون قصائده، ربما لأنهم وجدوا فيها امرأة يبحثون عنها، أو وطنًا سُرِق منهم، فلا تستغربوا إذا رأيتم ديوانًا من دواوينه تحت وسائد أولئك الذين يلعنونه.
أتجوّلُ في الوطنِ العربيِّ
لأقرأَ شِعري للجمهورْ
فأنا مقتنعٌ
أنَّ الشعرَ رغيفٌ يُخبز للجمهورْ
وأنا مقتنعٌ – منذ بدأتُ –
بأنَّ الأحرفَ أسماكٌ
وبأنَّ الماءَ هو الجمهورْ
لم يكن نزار قباني ثورةً شعريّة واجتماعيّة فحسب، بل كان ثورة سياسية شعبية، تقف في وجه الأنظمة العربية التي حولت الوطن إلى سجنٍ كبير، ومدجنةٍ تموت فيها إنسانية الإنسان، لقد كسر نزار قاعدة الشاعر الذي يجلس في حضن الخليفة أو الملك أو الرئيس، ويأكل من مائدته ويصفق لخطاباته، فكانت له صدامات مع الأنظمة بسبب شعره السياسي، فأبعده النظام السوري عن حبيبته دمشق، وقتل زوجته بِلقيس في تفجير السفارة العراقية ببيروت، لقد كلفته الكلمة نفيًا من دمشق، وصليبًا يحمله على ظهره في منفاه.
يا شامُ أينَ هما عينا معاويةٍ
وأينَ من زحموا بالمنكب الشُّهبا
فلا خيولُ بني حمدانَ راقصةٌ
زهوًا ولا المتنبي مالئٌ حَلَبا
وقبرُ خالدَ في حمصٍ نلامسُهُ
فيرجفُ القبرُ من زوَّارِهِ غَضَبا
يا رُبَّ حيٍّ رخامُ القبرِ مسكنُهُ
ورُبَّ ميْتٍ على أقدامِهِ انتصبا
يا ابنَ الوليد ألا سيفٌ تؤجره
فكلُّ أسيافنا قد أصبحت خشبا
دمشقُ يا كنزَ أحلامي ومروحتي
أشكو العروبةَ أم أشكو لك العربا؟
أدمـتْ سياطُ حزيرانٍ ظهورهُمُ
فأدمنوها وباسوا كفَّ من ضربا
لقد أُخرج نزار من دمشق التي ظلّت في قلبه وشعره، كما أُخرج أهلُها اليوم، فكان من أوائل المُهَجّرين منها، وظل مشرَّدًا خارج وطنه، فاستحال العصفور في مخيلته إلى سجن، والبحرُ إلى دائرةٍ سوداء، وسنبلةُ القمح إلى مسدس، ونسي شكل الرغيف والوردة، وبات الوطن فكرةً مؤلمة تجعل عينيه تفيض دمعًا، وكيف لا يبكي من يقرأ قصائده (درس في الرسم – الخطاب – مرسوم بإقالة خالد بن الوليد – تقرير سري جدا من بلاد قمعستان- ثورة الدجاج- وطن للإيجار..)؟
كان بإمكان نزار قباني أن يبقى مستلقيًا على وسائد الحرير، مختبئًا في العيون الملوّنة، وأن يبقى مشغولا بالنهود المستنفرة والشعور المنسابة على الظهور العارية، إلا أنه اختار أن يموت على الطريقة البوذية حرقًا كما يقول، لأنه يؤمن أنَّ الكتابة نوعٌ من الشهادة، وأنَّ الشاعر الحقيقي هو الذي يُذبح بسيف كلماته.
هناك بلادٌ تخاف على نفسها
من هديلِ الحمام
وقهقهةِ الريح بين الشجرْ
وتستنفر الجيشَ
برًا وبحرًا وجوًا
لكي يستعد لقتل القمرْ
هناك بلادٌ
تشرِّعُ أبوابها للبغايا
وترفض أن تمنح الشعرَ
تأشيرةً للسفرْ..
وبعد، لا أعرف كيف أختصر نزار قباني في صفحةٍ أو صفحتين، فمن الصعب أن تُختصر مسيرةُ وردةٍ في ربيعٍ واحد، أو أن تُختصر قصةُ غيمةٍ في جولة واحدة من المطر، فهذا الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، صار جزءًا من تاريخ دمشق وثورتها، شجرةً في بيتٍ قديمٍ من بيوتها، حمامةً بيضاءَ في جامعها الكبير، فكيف أستطيع أن أحيط بمدينة أو أن أمسك حمامةً لا تعرف غيرَ الحرية؟!