لقد أثبتتِ التجارب والنكسات التي مرَّت في سنوات الثورة السورية أنَّها ثورة مدنية ذات مطالب شعبية تتمحور حول قيم مجتمعية ومضامين إنسانية في طليعتها الحرية كقيمة أساسية تفرعت عنها قيمٌ أخرى.
لقد حاول النظام بأجنداته الإعلامية تسويق الثورة على أنها ثورة إقصائية بل حرب أهلية أدواتها عسكرية، لا تحمل أي مشروع، خارجية بأهدافها، يسودها التشتت والتبعية، بعيدة عن كل تلك القيم التي تنشدها ولا يمكن لها ولا لثوارها الخوض في ميادين الحوار، فهم يحملون مشروعاً تخريبياً همُّه الوحيد نسف إمبراطورية الأسد وعرشه المصون الذي يرفع لواء القيم متشدقاً تارة بالوطنية وأخرى بمحاربة الإرهاب.
ممارسات النظام السوري على الشعب جعلته نظاماً عسكرياً لا مدنياً، والتهجير الأخير رسَّخ هذه الصورة لدى القاصي والداني، أما النظام فيسوغ هذه الممارسات بأنها ردٌ على تحول الثورة من سلمية إلى مسلحة وهذا ليس بغريب، فأغلب الثورات التي قامت على مرِّ التاريخ تحولت إلى الخيار المسلح بعد فشل السلمية في صدِّ عدوان الحكام على المواطنين العزل.
لكننا لسنا في صدد تبرير تحول الثورة إلى مسلحة وبإمكاننا القول: إن الثورة السورية مدنية في أهدافها وتطلعاتها، عسكرية في بعض أدواتها، فالفهم الخاطئ لمفهوم المدنية أدى إلى ترجيح كفة العسكرة في كل محاور العمل الثوري، في الخطابات والتشريعات وتأسيس المؤسسات حتى نكاد في إحدى سنوات الثورة الماضية لا نجد في كيان الثورة من الفاعلين إلا العسكريين.
لقد أفرزت تلك التجارب المقيتة فكراً ثورياً لو ظهر من البداية لحققت الثورة أهدافها بأقل تكلفة دموية ممكنة، لكن المهم أن الثورة العفوية استطاعت أن تكوّن كياناً خاصاً بها يوازن بشكل أو بآخر بين متطلبات الحياة وضرورات الموقف ويدرك إلى حدٍّ ما أن الحاضنة الشعبية هي المحرك الأساسي للثورة.
هذا الوجود القوي تكاتفت في تشكيله عوامل عدة على رأسها وعي الشعب بضرورة تفعيل دور كل الجوانب المدنية في المناطق المحررة خصوصاً بعد علميتي درع الفرات وغصن الزيتون اللتان منحتا الثورة ثقلاً جغرافياً جيداً لإقامة علاقات خارجية وتشكيل نواة قد تتمكن مستقبلاً من تحقيق الهدف الرئيس للثورة في الحرية والكرامة وسقوط النظام عن طريق الحوار أو أي طرق أخرى تخلو من التشتت والتبعية المفرطة.
والعامل الثاني هو إدراك الشعب فشل الحل العسكري العشوائي غير المنظم في مقارعة أقوى دول العالم عسكرياً واقتصادياً ولو أن هذا الإدراك جاء متأخراً فلا بأس باعتباره خطوة إيجابية قد تضع الخطوط الأولى لسورية المستقبل، ومع هذا الوعي انحسرت بشكل تدريجي ظاهرة تجنيد الأطفال وبدأ الاهتمام بأمور التعليم والصحة، وكي لا يبقى الأمر نظرياً دعونا نتوقف عند طلاب جامعة حلب الذين قرروا الاستمرار في الجامعة واستطاعوا ذلك، إذ في هذا الموقف ما يدلنا على توفر الحرية وتقديم الاحتياجات المدنية على الأهداف السياسية والعسكرية، كما يمكننا عدُّ نجاح العمل المدني بين المؤسسات الثورية والمنظمات العالمية أحد أهم أسباب التخفيف من النظرة الغربية تجاه المناطق المحررة والفصائل الثورية على أنها فصائل تقيِّد حرية المواطن داؤها التعصب ورداؤها الإرهاب.
المناطق المحررة اليوم هي مناطق مدنية مأهولة ذات كثافة سكانية عالية نتيجة التهجير لا يمكن قيادتها إلا بأسلوب مدني متحضرٍ يُعلي صوت القيم التي كافح الشعب لتحقيق جزء منها فوق صوت السلاح، أما كل الحكومات التي تنبثق عن الفكر العسكري الفصائلي والتي تحاول الحدّ من الجهود المدنية وتهتم بالسلطة والسيطرة دون تحقيق إنجازات على الصعيدين المدني والعسكري فلن تجد بيئة خصبة لنمو أهدافها، فالمجتمع السوري بحاجة إلى من يضمد جراحه ويشعره بأهمية الدماء التي بُذلت، ومع هذا الوعي المجتمعي سقط اللثام وظهر الوجه المدني الحقيقي للثورة والمناطق المحررة.