كل البشر على اختلاف أديانهم وأعراقهم يؤمنون بالروح التي يشبهها البعض بالتيار الكهربائي الموجود دون أن نراه، وحين نسأل الصغار قبل الكبار عن توفر الكهرباء، يعلم الكل أن المقصود ليس المولدة أو الأسلاك أو المصابيح، إنما الأثر الذي تصنعه تلك الأشياء مجتمعةً.
ندرك أهمية الكهرباء كعنصر غير مرئي، ولا يمكن للحياة المادية أن تستمر من دونها، ولا ندرك أهمية الروح التي فينا، فإذا كان الجميع يعلم أن الإنسان بالروح لا بالجسم ما الجسم إلا حامل للروح، فلماذا يزيد الاهتمام بالجسد على حساب الروح؟!
في الفترة الأخيرة ازدادت أمراض الاكتئاب والقلق واضطرابات النوم وإدمان الكحول وتعاطي المخدرات، ولم تستطع الحضارة المادية بكل إنجازاتها العلمية والتقنية أن تقدم حلولاً لأمراض النفس التي تسيطر على معظم سكان العالم.
يظل غالبية البشر من غير المؤمنين يبحثون عما يهدئ أرواحهم الهائجة كبحر متلاطم الأمواج لم يجد في معطيات الحياة المادية ما يروي ظمأه، وقد اصطلح الأطباء على ما يسمى بالأمراض (النفس جسمية) ووجدوا أن كثيرًا من أمراض الجسد منشؤها نفسي، وذلك دليل واضح ومباشر على سيطرة الروح على الجسد، فالنفس المضطربة تشوه كل ما يرتبط بها، بينما تتسم النفس المطمئنة بالرضى والانسجام، وقد تجد مريضًا جسمه يكاد يكون هيكلاً عظميًّا، لكن روحه منطلقة وراضية. فالروح لها سلطانها على الجسد، ونعيم الروح يُسعِد الجسد ولو كان متعبًا والعكس غير صحيح، فرفاهية الجسد لا تسعد الروح.
لا يُدخلِ السعادةَ إلى القلب الطعامُ الشهي اللذيذ ولا اللباس الجديد ولا المسكن الفاخر، فهذه معطيات مادية ترفه الجسد وليس لها أي علاقة بالروح، فالطعام الفاخر الشهي إذا كان من كسب حرام، فكيف له أن يُدخل السرور للروح؟!
البُهلول شخصية تاريخية معروفة أُشيع عنه الجنون، التقى يومًا بالجُنيد البغدادي وهو عالم معروف في عصره، فسأله البهلول عن آداب الطعام، فأجاب الجنيد: “أن تسمي الله، وتأكل بيمينك مما يليك لقيمات يقمن صلبك.”
فضحك البهلول وقال: “وما نفع آداب الطعام إذا كان المأكول من حرام؟! فبكى الجنيد.”
في القصة عبرة موجعة وإشارة واضحة إلى التوازن الذي جاء به الإسلام دقيقًا في غاية الانسجام بين الروح والجسد والذي يقوم على مبدأ عظيم: (اعط كل ذي حق حقه) فالمسلم يأكل طعامًا حلالاً من كسب حلال، ويأكل ما يكفيه دون إسراف وتبذير، وقال عليه الصلاة والسلام: ” ما آمن بي من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع.”
الحضارة المادية أعطت جسد الإنسان كل المتع المتخيلة بصريًّا وسمعيًّا وحسيًّا، واليوم من خلال جهاز صغير تحمله بين يديك يمكنك أن تجول العالم وأنت في مكانك، تتابع الأخبار والصور لحظة بلحظة، تسمع وترى ما تريده من حلال أو حرام.
كل هذه التقنية المذهلة للجسد، فأين نصيب الروح.؟! كم عدد التطبيقات الموجودة في الأجهزة الذكية التي تزيد من معرفتك بالله عز وجل وتشعرك بمراقبته لك! هل هناك تطبيق ذكي يذكرك برحلة الموت التي لا تعرف موعدها كما يوجد مئات التطبيقات التي تذكرك برحلات الطيران من مكان إلى مكان؟!
الروح تصرخ صرخات مدوية لا يسمعها أحد وأولئك الذين ينتظرون دورهم في عيادات الطب النفسي لا يحتاجون إلى مضادات القلق والاكتئاب، ولا يرغبون بشراء المزيد من حبات الدواء التي تساعدهم على النوم أو التركيز، إن أرواحهم المتعبة تصرخ دائما: “ألا بذكر الله تطمئن القلوب” لكن القلوب لاهية، والأجساد مشدودة لملذاتها ولباسها وجمالها، ولذلك صارت النفوس مريضةُ متعبةً، والأرواح حائرةً سجينةً مضطربةً.
إنها دعوة للتوازن الذي دعا إليه كل سطر في القرآن الكريم: وما فرطنا في الكتاب من شيء”
توازن يعيد بناء علاقة حبٍّ وانسجام وسرور بين الروح والعقل والجسد، وبذلك يحيا الإنسان المسلم مليئًا بالرضى بقضاء الله خيره وشره، وهو يعلم أن الحياة الدنيا دار ابتلاء، ولو أرادها الله صافية من الأكدار لكان نصيب الأنبياء والصالحين من صفائها أكبر مما نعلم.