تبقى تجربة فرنسا التي فُرض عليها الاستسلام المذل على أيادي جيوش هتلر مفيدة لنا في ظروفنا الحالية، فالناس في ذلك الوقت انقسموا إلى واقعيين كما يدعون قبِلوا الاحتلال الألماني وتعاملوا معه وقدموا له التنازلات، وآخرين كانت لهم نظرة عابرة للحظة الراهنة، احتفظوا بإرادتهم وجددوا وسائلهم بانتظار اللحظة المناسبة للعمل، وهذا ما نقرأه في هذا الكتاب للمؤرخ الفرنسي جوليان جاكسون، حيث مثل المارشال بيتان تيار الاستسلام ومثل الجنرال شارل ديغول تيار الإرادة والأمل.
يبدأ كتاب فرنسا سنوات الظلام بمشهد يحترم المعنى دون أن يتوقف كثيرًا أمام الشكل، وهو اجتماع لهيئة الوزارة الفرنسية المؤقتة التي دخلت باريس بعد تحريرها من قبضة الاحتلال الألماني، برئاسة قائد فرنسا الحرة الجنرال شارل ديغول، كان جو باريس حارًا في شهر آب سنة 1944 وكذلك قلقًا؛ لأن المعارك ما تزال دائرة على مساحات من الأرض الفرنسية، وكان الموضوع المطروح على هيئة الوزارة المؤقتة محفوفاً بتعقيدات شائكة ومليئًا بمشكلات صعبة، لأن جدول أعمال الاجتماع حوى بندًا واحدًا تقدم به الجنرال ديغول ملخصه: ضرورة صدور مرسوم ينص على إلغاء كافة التشريعات والتنظيمات التي أُقرت أو وُضِعَت طوال السنوات الأربع التي رأسها المارشال بيتان بعد استسلام فرنسا ودخول الجيش الألماني إلى باريس، وكان ذلك إجراءً كاسحًا، ذلك أن المارشال بيتان وقَّع اتفاقيات صلح مع ألمانيا سمحت باحتلال نصف فرنسا بما فيها باريس، وسمحت في الوقت نفسه ببقاء نصف فرنسا الآخر بغير احتلال تتولى أموره حكومة فرنسية برئاسة بيتان تبدأ سلطتها من مدينة فيشي جنوب غرب فرنسا، وهذه الحكومة قامت خلال سنوات ولايتها الأربع بإعادة بناء دستوري وقانوني وإداري واسع قيل في تبريره: “إنه الاستفادة من درس الهزيمة التي مُنيت بها فرنسا من قِبل ألمانيا” وكانت عملية إعادة البناء الدستوري والقانوي والإداري استيعابًا للدرس، كما قيل في تبريرها، طالت كل مرافق الحياة في فرنسا، لكن ديغول جاء الآن في لحظة التحرير ليسقط هذا البناء كله.
كان منطق ديغول أن حكومة فيشي ورئيسها المارشال بيتان، وهو أبرز أبطال فرنسا في الحرب العالمية الأولى، لم تكن شرعية لأنها رضيت أن تتعامل مع الاحتلال وتتفاوض تحت ظل مدافعه.
وافقت هيئة الوزارة المؤقتة بالإجماع على مطلب ديغول مع أن كل أعضائها كانوا يعرفون ويقدّرون حجم التعقيدات والمشكلات التي سوف تطرأ فور صدور هذا الإعلان، ورغم ذلك فإن كل أعضاء الوزارة كانوا في الوقت نفسه يدركون أهمية تلك اللحظة الفارقة في المعنى على مسار التاريخ الفرنسي.
وفي أثناء المناقشة اقترح أحد الوزراء أن يعلن قائد فرنسا الحرة عودة الجمهورية الفرنسية، فردّ ديغول: “إن الجمهورية الفرنسية لم تغب عن الوجود قط حتى وإن كان بعض الأفراد قد انتحلوا سلطتها واستعملوها في توقيع ورقة بإملاء السلاح”
وتساءل وزير آخر عمَّا إذا كان مناسبًا إسقاط فترة الاستسلام (السنوات الأربع ما بين حزيران 1940 الى آب 1944) من تاريخ فرنسا باعتبارها زمنًا خارج الشرعية، ومرة ثانية رفض ديغول، ورأيه أن الشرعية الفرنسية تلك السنوات تمثلت في المقاومة (حركة فرنسا الحرة) بصرف النظر عن وجود حكومة على بعقة من أرض فرنسا في فيشي، وتقديره أن الإرادة الوطنية هي أساس الشرعية، وفي غياب الإرادة الوطنية ليس هناك شرعية وخصوصا أن تلك الحكومة في فيشي وقّعت ورقة الاستسلام دون معرفة رأي فرنسا ودون سند من إرادة شعبها.
وكان قرار ديغول أن تلك السنوات التي لا يمكن إسقاطها من التاريخ الفرنسي سنوات ظلام نزلت على فرنسا، وبرز سؤال فرض نفسه هنا، ما هو حساب سنوات الظلام؟ ومن أين تبدأ؟ وأين تنتهي؟ وكانت إجابة ديغول من ساعة وضع بيتان توقيعه على ورقة الاستسلام وحتى ساعة إعلان دخول حكومة فرنسا الحرة إلى باريس.
وتولى هنري فريناي وهو أحد زعماء المقاومة البارزين مهمة تفصيل ما أجمله ديغول فأعلن بالنص: “إن حكومة بيتان كانت ظرفًا ساد فيه الجنون، لقد هُزمنا عسكريًّا أمام الألمان، إن ذلك صحيح لكنه ليس سببًا كافيًا يدعونا لأن نقبل كحقيقة ثابتة ما هو حادثة عارضة.”
لقد كان قبول التعامل مع ألمانيا هو الهزيمة ذاتها، فالسلاح ينهزم وهنا الحادثة، ولكن إذا انهزمت الإرادة فهناك النهاية. وهكذا اعتُبر انكسار الجيوش حادثة من طبائع صراعات التاريخ، وأما القبول والتوقيع على ورقة تنازل بإملاء السلاح فتلك هي الكارثة!
كان انكسار الجيوش الفرنسية مذهلاً فالهجوم الألماني على فرنسا بدأ يوم 9 أيار سنة 1940 وكان تقدمه من الجهة غير المتوقعة أو على الأقل الجهة التي لم يحسب حسابها بالقدر الكافي، والحاصل أن فرنسا كانت تنتظر الهجوم القادم من الشرق على أي بقعة من خط حدودها مع ألمانيا، وقد تصورت أنها استعدت لهذا الاحتمال وكانت واثقة أن الخط الدفاعي الأسطوري الذي بنته أمام ألمانيا الذي أشتهر بخط ماجينو، (على اسم وزير الدفاع الفرنسي الذي أعد له وأشرف على بنائه) سدًّا لا يقهر من التحصينات المنيعة وأبراج المدافع ومرابض الدبابات ومراكز القيادة ومخازن الأسلحة والذخائر والمؤن التي يمكن أن تعين المُدافعين عن الخطِّ وعن تراب الوطن الفرنسي شهورًا بل سنوات، لكن الهجوم الألماني عندما جاء أتى من الشمال؛ لأن خطة هتلر لغزو فرنسا كررت مرة ثانية خطةً قديمة وضعها المارشال فوت شليفن من أيام حرب السبعين (1870) ومقتضى الخطة ترك الحدود الفرنسية وخطوطها وتحصيناتها والدوران حولها عن طريق بلجيكا وهولندا وعبور نهر الموس والنفاذ في مناطق الأردين ثم عبور نهر اللوار والاندفاع نحو باريس وتحقيق الفصل الكامل بين الجيوش الفرنسية على خطوط الحدود في الجنوب وبين الجهة الأكثر حساسية والأشد خطرًا في الشمال والعرب.
وفي أيام قليلة كانت مدرعات الجنرالات جودريان وروميل وفون بيك تسابق بعضها بعضًا في شمال فرنسا وغربها مندفعة إلى قلبها.
ومن المصادفات صباح يوم بدء الهجوم الألماني على فرنسا (فجر 9 أيار) أن القيادة العليا الفرنسية كانت معطَّلة لأن رئيس الوزراء الفرنسي بول رينو لم يعجبه أداء القائد العام للجيش الفرنسي المارشال موريس جاملان فيما سبق من معارك فقرر إحالته إلى الاستيداع مساء يوم 8 أيار لكنه فجر اليوم التالي 9 أيار ومع بدء الهجوم الألماني الشامل عبر هولندا وبلجيكا والالتفاف حول خط ماجينو لم يكن أمام بول رينو سوى العدول عن قراره بإحالة قائده العام إلى الاستيداع، وهكذا فإن المارشال جاملان الذي وقع طرده في المساء أعيد تثبيته على منصبه في الصباح، والواقع أن الجبهة الفرنسية كانت قد انهارت تمامًا في حضور المارشال جاملان ثم في غيبته بالطرد في المساء وكذلك بعد عودته بالتثبيت في الصباح.
يُتبع ..
1 تعليق
Pingback: سنوات الظلام فرنسا 1940- 1944.. (2) | صحيفة حبر