نحن أبناء هذا الواقع، نعيش فيه ونتحرك وفق قوانينه، وتحاصرنا مقتضياته الحتمية في خطواتنا الأولى، لا ننشد تغييره قبل أن نستطيع التأثير فيه، وإنّ تبنِّينا لأي نظريات خارجة عنه تماماً ستجعلنا كمحاربي الظلال، يخوضون معارك متعبة ولا ينتصرون إلا على أنفسهم، تغالبهم أوهامهم بصحة ما يعتقدونه صواباً فيستمرون بالدوران في حلقاتهم المفرغة من الحقيقة والمبنية على التصور.
إنّنا لا نستسلم لواقعنا المخزي ذاك، بل نتحرك بكل ما أوتينا من قوة من أجل تغييره، لكن علينا أن ندرك أننا متشكلون به، نحيطه ويحيطنا، ولن ننجح إلا إذا أخذنا أسباب تغييره الحقيقية (تلك الأسباب النابعة منه ومن ظروف تشكله واستمراره) بعين الاعتبار وقوة الاعتقاد وصلابة العزيمة. فهدمناها هدماً وأرسينا دعائم مبادئنا مكانها.
إن نظرياتنا حول المُثل والحق والباطل لم تعد مجديّة، لقد فرضها هذا الواقع يوماً بطريقة لا تؤذيه أبداً، إن إنسانيتنا المفرطة التي ندعيها ليست مجدية أيضاً، فالعدو الذي يأمن انتقامك سيكون أكثر تجرؤاً عليك، وإنّ امتلاك أسباب القوة في عالمنا هذا أهم من امتلاك أسباب السياسية، فلا سياسة بدون قوة تحميها، ولا قوة فاعلة إذا لم يستطع أهلها سياسة ممكناتهم.
لا يعطى حقٌ باستجداء الدول وإبراز المظلومية، وإنما تعطى الحقوق على قدر الكفاح والعمل والتضحية، ولن ينتصر قومٌ متفرقون أشتاتاً لا يقوم بأمرهم من يثقون بحكمته، وقيادةٌ يلتفون حولها، وإن شعباً قادرًا على مهاجمة كل من يتصدى لأمر قيادته، ستبقى الأهواء تتقاذفه إلى أن يضمحل ويفنى في مستنقعات اللجوء ومخيمات النزوح وشهوات الدنيا وشعارات الصمود المزيفة والبكائيات الكاذبة.
لا تتعاملوا مع واقعكم ببراءة مطلقة ولا بإنسانية مطلقة ولا بعدائية مطلقة، في الحقيقة المطلقُ شيءٌ لا نمتلكه، ولا يحب أن يحكم تفكيرنا وسلوكنا، نحن مخلوقات محدودة جدًا تعمل ضمن ظروف وممكنات وقيود وحقائق علينا أن نتعامل معها، أن نحاول تغييرها عندما نمتلك الأدوات لذلك، لا أن نمارس مثالية الضعفاء.
إننا محتاجون لإنتاج قيادة نثق بها، وصقل سيف نضرب به، وتوعية جيل يحمل السيف ويلتف حول قيادته حتى يتحقق النصر، فإذا تحقق النصر بدأنا بالتغيير الذي ننشده، في ذلك الوقت عندما نمتلك حريتنا نستطيع أن نغيّر واقعنا تماماً، أما قبل ذلك فنحن نخطو بضع خطوات لا غير، أو نلهو بعبثٍ كبير.
إن الحرية هي مآلنا الذي نحلم به، والطرق للوصول إليها كلها محاطة بواقعنا وبفشلنا في تجاوزه. علينا أن ندرك ذلك حتى نستطيع البدء من جديد.
المدير العام | أحمد وديع العبسي