عِلةٌ نفسية يصاب بها جموعٌ كثيرة من سكان هذه الأرض يعانون فيها من النقص والفراغ في حياتهم وذلك جراء بعض التفاصيل التي غابت عنهم، إذ يرى الكثير أن هذه التفاصيل هي الأهم ولابد من وجودها حتى يصلوا إلى سعادتهم ويذوقوا طعم الحياة ونشوتها.
لقد وصف العالم الأمريكي دنيس براجر هذه المتلازمة التي أسماها (متلازمة المربع المفقود) والتي بناها على أن الناس يركزون أنظارهم على مكان المربع المفقود في السقف، أي أنه لو كان هناك سقف مستعار في غرفة ما يتألف من مئة مربع، وكان هناك مربع ناقص من بين هذه المربعات فإنه سيلفت انتباه الناس ويشغل أنظارهم عن المربعات التسعة والتسعين الموجودة.
لقد تناولت هذه النظرية موضوع النقص المادي الذي من الممكن تعويضه، فالمربع المفقود في السقف يعوض عنه بجلب مربع بديل عنه يوضع مكانه، لكن لابد من إلقاء الضوء على الفقد المعنوي للشيء وهو الجانب الأهم، ففي علاقة الإنسان مع شريكه قد يشكو غياب الكثير من التفاصيل المرجوة في هذا الشريك، ولا شك أن هذا أمر فطري في النفس البشرية التي تطلب المزيد دوماً، لكن ما هو غير فطري تعميم الرغبة في امتلاك التفاصيل المفقودة عن النظر والاستمتاع بالتفاصيل الموجودة عند ذلك الشريك التي غالبًا ما تكون هي التفاصيل الأهم في شخصية الشريك، فلو أنه نظم قائمة بالأمور الموجودة والمفقودة في شريكه غالبًا ما سيجد أن التفاصيل الموجودة هي الأكثر والأشد احترامًا من التفاصيل الغائبة عنه.
وكذلك هي العلاقة بين الأصدقاء والأصحاب، فمن الملاحظ أن انهيار الكثير من العلاقات ما هو إلا نتيجة تركيز أحد الأطراف أو كلاهما على المربعات المفقودة عند الطرف الآخر.
في متلازمة المربع المفقود ليس كل حالات انتشارها واقعة بين الشخص والشخص الآخر كالشريك أو الصديق، إنما تنطبق أيضًا على إحدى المربعات المفقودة عند الشخص ذاته الذي يتناسى كل مربعاته السليمة والموجودة بسبب فقده لإحدى المربعات أو الميزات التي يتمنى امتلاكها..
من الطبيعي أن يعيش ضحية تلك المتلازمة في التشاؤم، وقد يطبع اليأس ختماً على كينونة حياته، ولن يكون الضحية راضياً عن نفسه أو عمَّن حوله؛ فتلك المربعات الكثيرة من التحصيل العلمي أو الاحترام العام له أو امتلاكه لشريك مناسب.. إلخ، لن تكون كافية عنده أو قد لا ينتبه إلى خيريتها إلا بعد فقدها.
إن الوقوع في شراك تلك المتلازمة سيبعد الشخص عن مجتمعه ويخلق له شرخاً في جُلِ علاقاته، وتبعده عن استثمار تلك المربعات التي يمتلكها والتي يراها غيره مربعات مفقودة عندهم.
وقد حدث أن مرت قصة مع جدي الفلاح أثناء عودته من أرضه الزراعية يومًا ما وهو يمتطي حماره، إذ كان يتناول زوادته على الطريق فمرت سيارة لأحد أغنياء القرية، وحين اقترب من جدي توقف وألقى عليه السلام ثم سأل جدي: ماذا تأكل؟ فأجابه وعرض عليه أن يطعمه، لكن المفاجأة أن ذلك الغني دمعت عيناه حين قال: حُرمْتُ من هذا الطعام لأكثر من عشرين عاماً، والناس تحسدني على سيارتي ومالي، وأنا أحسدهم على أنهم يأكلون هذا الطعام ويتذوقون لذته، لأنني أُصِبْتُ بعللً في أمعائي وفي جسدي كله؛ فمنعني الأطباء من تناول الأطعمة سوى الخفيفة والسوائل كحمية غذائية دائمة، ولي سنين أعيش على الأدوية والسيرومات.
لكل داءً دواء، ودواء هذه الحال هو يقين الإنسان أن الكمال لله وحده، فعلى الإنسان ألا يتحرى الكمال في نفسه أو في غيره، فلكلٍ منا مربعات مفقودة وأخرى موجودة، وعلينا أن نجد البدائل للمفقود لا إضاعة الفرص في الندب على النقص والفراغ، فالحياة لا تقف على نقص في بعض القضايا والإنسان السليم في العقل السليم الذي يتأقلم مع الموجود ويسعى لتطويره إن أمكن، فنحن لسنا مطالبين بالمثالية المطلقة، إنما باغتنام فرص التطوير وعدم إنهاء العلاقات جراء بعض العيوب التي يستعاض عنها بالفضائل المتاحة.
1 تعليق
Husam Darwish
ماشالله
مقال مفيد واختيار موفق
بالتوفيق اخي ابو الوليد