محمد فتحي المقداد |
تأتي قضية الالتزام لتشكل حالة إنسانيّة وأخلاقيّة عامّة شاملة لدى البشر، ربّما من يلتزم بباطل مُجانبًا الحق والصواب مع الإصرار العنيد على موقفه، والأقوى والأجمل هو الانحياز للحق وأهله، وإن أغضب العالم والكون أجمع.
(ابتسام شاكوش) قاصّة وروائيّة سوريّة من ريف اللاذقية من قرية (الجنكيل) التابعة لمدينة (الحفّة)، ولا تبعد عنها سوى خمسة كيلومترات، لها ما يقرب من عشر مجموعات قصصيّة وتسع روايات مطبوعة.
الأدباء عامة كل منهم ملتزم بقضية ما، والانحياز الأعظم والأقوى منهم عندما يكون لقضايا الإنسان والمنافحة عنه ضدّ الظلم والدكتاتورية، والعمل على إعلاء قيم العدالة والعيش الكريم، واحترام الحريّات الشخصيّة والمساواة أمام القانون، فبهذا المعنى يكون الكاتب حالة متقدّمة ارتبط فكره وإبداعه بقضايا وطنه ومواطنيه، وكثيرًا ما يضحي الكاتب بوظيفته وبحياته من أجل قضيّة آمن بها.
(ابتسام شاكوش) وإيمانًا منها بالتزام الخط الإصلاحي في نهج فكريّ مُنظّم لكشف الفساد الأخلاقيّ والإعلاميّ والإداريّ للنظام الدكتاتوريّ الجاثم على صدر الشعب، جاءت كتاباتها مُتروّية في تسليط الضوء على العلّة والداء، وفضح أساليب الحياة المقهورة، والأطُر الحاكمة وكشف الخيوط المرتبطة بها كمنظومة فساد متكاملة من الألف إلى الياء..
أ – الالتزام وقضايا الفساد:
أختصر القول بنقل لبعض الفقرات من صفحات الرواية تحكي قصّة الفساد، وأعتقد أنها تشرح نفسها بنفسها، وليست بحاجة لتعليق منّي:
“أبو سعيد شرطي حراجي، مهمته حماية الغابات من الاستهلاك، ومنع أي شخص من قطع الأخشاب لتفحيمه، أو جمع الأعشاب الطبية لبيعها من أجل الإنفاق على بيوت يئس أصحابها من إيجاد وظيفة في دوائر الدولة، أو إقامة مشروع إنتاجي لا يقاسمهم أرباحه رجال الشرطة والمخابرات وشعبة الحزب ومكتب الفلّاحين” ص35
وعلى لسان (مصعب) الملقّب ابن المجرم: “تأتي معلومة جديدة من أحد الرفاق فتطوح بي في الفراغ، تقودني لاكتشاف مساحة جديدة من علاقات إدارة الشّعبة كانت خافية عليّ، المستخدمون هنا المسؤولون عن النظافة هم أقارب أمين الشّعبة؛ جاء بهم من حقولهم وقُراهم الجبليّة البعيدة؛ ليحيطوا به، وليقبصوا رواتب شهرية، يدفعون له نسبة منها طالما بقي في منصبه” ص37
“أحاديث رجال القرية كلها تدور في فلك السياسة والمشاريع الخدمية التي تقدّمها الحكومة، وفي أبنية المدارس الجديدة التي يحضر المحافظ وأمين فرع الحزب مع حاشيتهما وحُرّاسهما ومن شاء من أصدقائهما أن يتطفل على الوليمة لوضع حجر الأساس لها، يقيمون حفلًا لتدشينها، يرقصون ويدبكون ويُلقون الخطابات الجوفاء، ثم ينصرفون إلى مطعم تمّ حجزه مُسبقًا، سبقهم إليه رجال الشرطة والمخابرات لحراستهم” ص37
“يتحدّث رجال قريتنا عن الأموال التي تُهدر في تلك الاحتفالات، والمصالح التي تتعطّل، يتحدّثون عن الأبنية التي يُسرق حديد تسليحها، ويُسرق إسمنتها، فتدلف سقوفها منذ شتائها الأوّل، وتنهار بعض الجدران في الشتاء التالي، يبدأ مشروع ترميمها، واحتفالات لتدشين الترميم بسلسلة من الحفلات والدّبكات، لا بداية لها ولا نهاية” ص37
“أنصت لحديثه، وأتذكّر أنّ كل هذه المنجزات التي يذكرها منخورة بالفساد حتى أعمق أعماقها، مستندًا إلى ما أراه وما أسمع من أحاديث في باص قريتنا وفي مجالسها” ص39
“حديث الباص من الحفّة وإليها كان مقتصرًا هذه الأيّام على المدير الجديد للزراعة، الذي ينظم بيع الموادّ الزراعيّة، وعن الشراكة بين هذا المدير الجديد ومدير المصرف الزراعيّ الذي أدّى إلى غلاء كلّ ما تحت أيديهما من مُبيدات حشريّة، وزيوت شتويّة وأسمدة، لا يمكن لحقول التّفاح الاستغناء عنها” ص44
“قال لنا مُدرّب التربية العسكريّة في مدرستي الجديدة: إن المعسكر الذي يلي الصفّ العاشر إجباريّ، ومن يغيب عنه يرسب في صفّه، أمّا المعسكرات الأخرى من شبيبة وصاعقة، وقفز مظليّ فهي اختيارية، لكن فيها مكسب حقيقيّ، إذ تُعطيكم خمسين درجة، تضاف إلى مجموعكم في الثانويّة العامّة؛ لتدخلوا أيّ فرع من فروع الجامعة ترغبون به” ص 47
“جدّي ما فتئ يكرّر على مسمعي: بأننا ندرس التّاريخ مُزوّرًا” ص49
ب – الالتزام وقضايا حقوق الإنسان:
في الأنظمة الدكتاتوريّة لا قيمة لدستور شُرِع لضمان القيمة الاعتبارية للإنسان وكرامته وحريّته الشخصيّة وحاجيّاته، فيذوب هذا الكيان في دوّامة زحمة الأجهزة الأمنيّة التي تحكم البلاد بقبضتها، تحت ذرائع ومسميّات؛ لفرض سيطرتها بالقوّة والتهديد والوعيد، وزرع الخوف والرعب في القلوب والنفوس؛ فتُكمّم الأفواه، وتصمت الألسنة عن قول كلمة الحقّ، لما لها من مضاعفات كبيرة تهدّد استقرار حياتهم.
وقضيّة معتقلي الرأي قديمة متجدّدة في نظام شموليّ كالنظام السوريّ، فمنذ مجيئه إلى السلطة أعقاب أحداث 1963 وفيما أطلق عليه (ثورة 8 آذار)، لم تتوقّف الاعتقالات لناشطي الفعاليّات الثقافيّة والحزبيّة المناوئة للانفراد بالسلطة، وتكلّل نظام الإقصاء أوجه بعد 1970 إثر انقلاب أبيض سُمّي (الحركة التصحيحيّة)، الذي ابتدأ عداءه للشعب فيما أطلق عليه أحداث الدستور1971، ولم يتوقّف السير في انفراده بالسلطة عندما انطلقت حملته المسعورة في الثمانينيات من القرن الماضي وعلى مدار ثلاث سنوات من أواسط سنة 1979- 1982م، وبلغت ذروة الحدث في أحداث مدينة حماة، بعد أن حدث ما حدث في حلب وجسر الشغور وسجن تدمر.
وفي رواية (ابن المجرم) أبدعت الروائيّة (ابتسام شاكوش) في تسليط الضوء على إفرازات هذه القضايا والأحداث التي صارت جزءًا لا يتجزّأ من حركة التّاريخ الدؤوبة، فقضيّة المعتقلين الذين عدهم النظام أعداء له، أعلن الحرب عليهم جميعًا دون استثناء، وفتح أبواب المعتقلات وأدخل فيها الجميع تحت ظروف سيئة بعيدة عن أبسط ظروف العيش الإنسانيّ.
(ابن المجرم) لقب شاب اسمه (مصعب) ابن لأحد الضباط الذي اعتقل، ولم تفصح السلطات عن مصيره، فاعتقد أهله جازمين أن موته محقق لا محالة ضمن هجمة همجيّة من قوّات وميلشيات سرايا الدفاع على سجناء سجن تدمر.
الرواية تعدُّ سجلًّا حافلًا توثق هذه الأحداث في عمل روائيّ شيّق في سرد الأحداث وتسلسلها لتكون مادة مقروءة عندما رفعتها من المحكي الشفاهي، وستبقى الرواية علامة مميّزة في تاريخ سورية الحديث، أجادت الروائيّة ابتسام في بنائها دراميًّا بشكل لافت يحاكي العقل على ضوء الواقع.
هذه الأحداث التي مهدّت للثورة السوريّة، وعلى رأي القائل: “إنّ الرواية هي انتقام الشعوب من حُكّامها”، عندما نقلت حكايات البسطاء وأحلامهم وآمالهم إلى عالم الورق والكتب.
عمّان – الأردن
15 \ 6\ 2018