كان من نقاط ضعف ثورتنا التي جاوز عمرها ثلاث سنوات عدم وجود خطاب سياسي جامع لكل مكوناتها، ينطلق من شعاراتها التي تفجّرت منها ويطبقها، بل كانت سمة الخطاب السياسي المحسوب على الثورة هي التفريق الذي كان من شأنه تشظية القوى الثورية وتشرذمها بين داعمين مسيّسين.
رداءة “الخطابات” السياسية وهزالتها وتضاربها فيما سبق سمح للنظام بامتلاك أوراق سياسية قوية مكنته من اللعب في المحافل الدولية التي يديرها قطبا العالم الدولي “الولايات المتحدة” و “روسيا”، المستفيدان من استمرار عدوان النظام على الشعب السوري ومحاولته المستميتة لوأد ثورته حتى لا يمتلك السوريون أسس نهضة تساهم في بناء دولة قوية وناجحة، وحتى لا تمتد ثورته إلى دولٍ مهددة منذ عقود بثورات مشابهة على أنظمتها.
قد تكون الثورة السورية انحرفت عن مسارها مدة من الزمن، حالها كحال كل الثورات العالمية، لكنها أثبتت أنها ثورة ذاتية التصحيح، وقد لاحق الشعب السوري الغيور على ثورته الأخطاء وعالجها بالنقد والعلاج والتقويم؛ ابتداء من انتفاضته على داعش التي حاولت التغلغل في الثورة لسرطنتها وإفسادها، وليس انتهاءً بميثاق الشرف الثوري، الذي سيسمح بتلاقي أصحاب المشروع الجهادي مع القاعدة الشعبية والاندماج معها.
ميثاق الشرف الثوري هو أول خطاب سياسي جادّ في الثورة السورية، فيه إعادة ضبط لبوصلة الثورة، وتحديد العدو المتمثل في الأسد ورصّ صفوف الثورة لقتاله وحده.
ربّما يرى البعض في الميثاق كثيراً من التنازلات، إلا أنه حقيقةً محاولة ذكية وناجحة لسحب الأوراق الرابحة من يد النظام والعالم الغربي الذي يخدع شعوبه مختزلاً ما يجري في سوريا إلى حرب أهلية أساسها صراع “مذهبي” بين تنظيم القاعدة وحزب الله في سوريا، محاولاً بهذا الاختزال تبرئة نظام القتل من كل الجرائم التي ارتكبها بحق السوريين.
بل أرى أنّ ميثاق الشرف الثوري تجاوزت فاعليته سحب الأوراق الرابحة من أعداء الثورة الخارجيين، إلى سحب البساط من تحت أعداء الثورة الداخليين، أولئك “المتأففين” الذين ما فتئوا يحاولون نخر جسد الثورة والانشغال بترصّد أخطاء القوى الفاعلة على الأرض وحدها “الموجودة فعلاً” وتصيّدها. والادّعاء بشكل مستمر ومتكرر أن الثورة سرقت منهم ولا تمثلهم بسبب انحرافها أو أخطاءها أو عسكرتها وضبابيّة خطاباتها وتضاربها، في الوقت الذي لم يصدر منهم فيه أي محاولة للملمة الصف بإصدار مشروع بيان أو خطاب يرتقي إلى مستوى الميثاق الذي أصدرته القوى الفاعلة على الأرض، التي يفترض أنها منشغلة عن السياسة بالدفاع المسلّح عن السوريين من بغي نظام الأسد.
بل كانت تصريحات أولئك، بُعَيد صدور ميثاق الشرف الثوري، تدور في فلك تسفيهه والحطّ من شأنه ومن صدق القائمين عليه! وعادت فئة منهم للدوران في فلك ترديد أسطوانة: “الثورة لا تمثلنا… الثورة سُرقت منّا “، أمّا الفئة الأخرى فراحت تشكك بإيمان القوى التي وقعت الميثاق.
لست بصدد الدفاع عن القوى الثورية التي أصدرت الميثاق و “معاذ الله” أن أقيّم إيمانهم أو إيمان الآخرين، وقد أختلف أو أتفق مع هذه القوى فكرياً أو أيديولوجياً، ولا أستطيع إنكار أنّ لهذه القوى أخطاءها. كما لا أستطيع أن أنكر أنّ كثيراً مما أتى فيه رسائل “تطمينية” للخارج.
لكن أرى فيه أيضاً كثير من الرسائل التطمينية الموجّهة للداخل، للقاعدة الشعبية “نحن” مفادها أن ثورتنا ديناميكية تستفيد من الدروس، قابلة للتطور والارتقاء بالوعي، تحاول في كل فرصة الاندماج مع كل أطياف المجتمع السوري الذي ثار ضد نظام الجور والظلم لا الوصاية عليها. وأرى أن الميثاق كشف حقيقة توحّد النتائج عند التفكير بالذهنيّتين المتناقضتين، العقلية “الداعشيّة” المتطرفة التي شكّكت بإيمان الموقّعين، مع العقلية “الليبراليّة” المدعية للثورية منها، التي سفّهت الميثاق الذي انتظره السوريون منذ أكثر من ثلاث سنوات.
بقي أن يصْدُق كل من وقّع على الميثاق، وأحسبهم كذلك، وألّا يتركوه في خانة الشعارات التي لا ظلال لها على أرض الواقع، وأن يكون الميثاق مرجعية للقوى الثورية يُحتكم إليه كلما شذّت إحداها عن مسار الثورة.
بقلم: باسم الافندي