كان شيئاً يشبهنا في تلك الرواية التي تتناول ثورة شعب على حزب ومعتقدات متشددة وتعاليم كنسية جائرة في بلدةٍ نائيةٍ عاشت لقرون بعيدة عن كل ما يبثُّ الحياة، إلى أن صعقها تيار الثورة القاتل فانبثق نور النضال على طول البلاد وعرضها، مما يعني حروبًا ممتدة على مدى عقود طويلة بين أبناء الوطن الواحد وسفك للدماء، وكلٌ يرى أحقيته في الأرض والدين، وبينما يبذل الرجال دمهم وتبذل النساء عمرها ويُحرم الأطفال أحلامهم في سبيل انتصار مبادئهم أو القتال في سبيلها على الأقل، يُنَّصب أولياء الدم نفسهم عرابي الحق؛ السياسيون وأصحاب ربطة العنق البغيضة من يمتلكون الحقوق الحصرية في الحديث باسم الثوار ويفاوضون باسم الأحلام ويناضلون تحت وصاية الإله، ليكتشف كل أولئك الذين قدموا أغلى ما يملكون بل كله أنهم يقاتلون من أجل لا شيء (كما قال الكولونيل أوريليانو بوينديا بطل رواية مئة عام من العزلة)، ليستسلم من بقي معطوب القلب ومشوش البصيرة لنصف الحلول التي لم تُحق حقاً ولم تبطل باطلاً بل تُعطيه تقاعداً أبدياً وتُقلده وسام الاستحقاق على أنه أنهى تلك المأساة التي تعب الكل من استمرارها، مع أن ضريبة الاستسلام كانت أكبر بكثير مما سيكون عليه الاستمرار فيما لو كان اتخذ قرار به، وليعود ويكتشف ذلك في أزمنة تالية لا ينفع فيها ندم ولا سبيل إلى إيقاد ما دفنه الخذلان في نفوس المؤمنين حقا بالقضية.
هذا ما قرأته في راوية “مئة عام من العزلة” التي كتبها غابرييل غارسيا ماركيز من أمريكا اللاتينية، وهذا ما أقرأه الآن في كف ثورتي الثورة السورية، طبعاً لست قارئة للحظ ولا أفتح بالفأل لكن ذلك بات جلياً لأدنى الناس اكتراثاً بالثورة فكيف بي أنا التي أعيش على اتقادها وتذبل أغصان روحي على نكباتها، ما كان للحزب المحافظ الحاكم في الرواية آنذاك أن يصل إلى صفاقة نظام بشار الأسد الذي استقدم كل كلاب العالم لينهش في جسد بلد يفترض أنه وطنه وأنه حاكم له يعمل على ازدهاره، وبعد أن باع شرفاً لم يملكه يوماً أظن أنه لن يرضى بأنصاف الحلول ولا بأرباعها إلا صاغراً بعكس الحزب المحافظ آنذاك الذي رأى أن الوقت قد حان لإيقاف إراقة دماء أبناء الوطن.
ولا أظن أن قادة الثورة الذين يدعون أنهم أحباب الله سيصلون إلى نزاهة الكلونيل أوريليانو بوينديا الذي لم يدن بدين يوماً ولم يزر كنيسةً في حياته، الذي أثار اثنان وثلاثين تمرداً من أجل مبادئه التي هي في عرف الإنسانية ربما تصح وربما تخطئ بينما قادتنا وقعوا صاغرين على اثنين وعشرين جنيف وأستانة وسوتشي والمناطق الأربعة وخفض التصعيد ليتنازلوا عن حق ليس فيه شك ولا يخامره ريب.
الكولونيل خسر سبعة عشر ولداً في محاولة يائسة للانتقام لطفل قطعت رأسه ظلماً، وقادة ثورتنا خسروا بلداً في سبيل أفقهم الضيق فقط ومشاريعهم الطفولية وعقدهم النفسية، بينما في كل ساعة يقطع رأس عشرات الأطفال ويشق ويهتك صدر أمهاتهم وتٌجتث الأشجار من منابتها لترمى في مواقد الغربة والنسيان.
هي الدروس والعبر لا يمكن استخلاصها من الروايات والأفلام، فأَجْمِل بتجربتنا السورية في الثورة بعد ثمان سنوات لم يعانِ عصر الإنسان الحديث أقسى منها أن تكون زبدة للتجارب الإنسانية وستبقى لعقود طويلة لمن ألقى السمع وهو شهيد، وبكل أسف لم يفلح متصدرو المشهد في ملاذنا الأخير في استنباط الدروس والتماس الدروب، وها نحن نضيع في متاهات عقمهم العقلي وهرطقاتهم اللامنطقية، ليبقى ملاذنا الوحيد هو إيماننا المتجذر فينا على مدار ثمان سنوات عشناها في ثورتنا، وهو المخاض الطبيعي لولادتنا من الاستبداد والانبعاث ولو بعد حين.