نركز الجهود في الفترة الأخيرة في مجالات تربية الوعي من أجل جيل قادر على النهوض وإحداث حركة فعلية في عملية التغيير وبناء المجتمعات، وعن غير قصد نهمل تحصين هذه التربية بالتأكيد على قيمة المرجعيات وأهميتها في هذه التربية وفي عمليات البناء الفكري للشباب، ونترك المجالات مفتوحة على أنها نوع من عدم تقييد الرؤى وفتح الآفاق للمعرفة المتنوعة أو الممارسة الحرة.
لا شك أن العناوين العريضة بهذه الطريقة أمر صحيح، لكن التطبيقات لا تبدو كذلك، فبينما نحن نصرّ على فتح مختلف المجالات الفكرية دون تقييد، يفعل الآخرون فعلاً توجيهياً يعيد قولبة الفكر والشخصية، ويحصل أن تربية الفكر لوحده يعطي أصحابه ثقة كبيرة بأنفسهم تجعلهم أكثر استقلالية عن المرجعيات التي تحميهم من الانزلاق في مطبات كبيرة باستخدام خاطئ غير مقصود للمنهجيات الفكرية خارج أطرها التي تولدت عنها.
إن عملية تعهد البذور في الزراعة حتى تنضج وتصبح قادرة على التشكل بالطريقة الصحيحة هي ما يحمي جني الفلاح من الفساد، فالسقاية والتسميد لا تكفي، إنما المراقبة الدائمة ضد كلّ الآفات التي من الممكن أن تفسد الثمرة داخلياً وإن حافظت على شكل خارجي جميل ومقنع.
من السهل أيضاً بعد النمو وضع قوالب على الثمار تجعلها تتشكل في غير هيأتها التي تنتمي إليها، إذا لم يحرس الفلاح أرضه، ويتعهد ثماره بالرعاية، وإن عملنا في هذا الجانب لا بدّ أن يكون مستمراً غير منقطع حتى نصل إلى مرحلة الحصاد، عندها فقط يتوجب على الثمار أن تنتج بذورًا جديدة وينتهي دورنا نحن.
كما يجب أن نصرّ ونحن نتصدى لتربية العقول على تربية الروح بشكل متواصل والاهتمام بالبعد القيمي، لأن البرهان العقلي صلب وقاسٍ، بإمكانه أن يخلق مجموعة من المعاندين في سبيل النظرية، وكأنّ الواقع حالة فيزيائية ثابتة تقدر النظريات دائماً على حل إشكالياتها، هذه التربية تتمثل في زرع القيم والتزكية، القيم التي تحمي الفكر من الانفلات والتدهور، والتزكية التي تحمي العقل من التصلب والخشبية تجاه حالة فهم واحدة، أو جهد عقلي فردي. فالحضارة التي يصنعها الفكر تسوّرها القيم وتحتضنها التزكية من أجل أن تبقى راسخة ومستمرة.
المدير العام | أحمد وديع العبسي