خمسة حمامات خرجن سالمات من تحت الأنقاض، سبحان الله لم يصبنَ بأذى، كان الغبار الأبيض قد كساهنَّ حلة جديدة، حركنَ رؤوسهنَّ بسرعة، ونفضنَ أجنحتهنَّ، وطرنَ عاليا.
أرواح بشرية بريئة سبقت الحمامات الخمسة، غادرت الدنيا إلى السماء تاركة أجسادها على الأرض ممزقة لأشلاء مبعثرة بفعل ستة صواريخ حريية رمتها طائرة روسية على بلدة (أورم الكبرى)
تاريخ الجمعة العاشر من شهر آب 2018 مفزع جعل أسرة المشافي في الريف الغربي لحلب تغصُّ بالآهات وتفيض بالصبر والرضى، فالدماء في ممرات المشفى وذكر الله والتسبيح يضجُّ به المكان قبل يوم واحد من دخول العشر الأوائل لذي الحجة.
القبور اشتاقت لأجساد تحتويها، كان من بين تلك الأجساد عائلة كاملة نامت بسلام في مقبرة البلدة، وعائلة أخرى لم يُصب أفرادها ولو بجرح بسيط، تركت كل شيء تحت أنقاض بيتها المهدم وراحت تبحث عن مكان تأوي إليه، بوجوه شاحبة وقلوب مرعوبة، وملابس مكسوة بالغبار، لا شيء غير ذلك..
ربما في الغد يستطيع فريق الخوذ البيضاء انتشال بعض قطع من أثاث البيت المهدم، فربما يخرج الفِراش أو السرير الخشبي سالمًا كما خرجت الحمامات سالمات، لكن ما نفع الفراش أو السرير الذي سقفه السماء؟!
كان وجه صديقي محمد يفيض حزنًا وأملاً وهو يخبرني عن مجزرة البلدة التي أحبها كما أُحب نفسي.
قبل أكثر من عام قصفت الطائرات الحربية المكان نفسه وارتقى يومها شهداء كثر، كان من بينهم زوج أخت صديقي وابنه ذو الأربعة عشر ربيعًا، واليوم يعيد صديقي محمد ترتيب بيت أخته الذي ظل صامًدا متحديًا شامخًا، كما هو حال الناس هنا فيما تبقى لنا من أرض محررة ..
تكسر زجاج النوافذ في البيت، وخلعت بعض الأبواب، والغبار الأبيض دخل في كل الشقوق، والجدران تهتز مستعيدة ذكرى القصف السابق، مستعيذة بالله من قصف لاحق.
صديقي محمد يعيد الأشياء المبعثرة إلى أماكنها وهو يشم رائحة الشهداء، ويستعيد أصواتهم، كأن الزمن يعود إلى الوراء، لم يتغير شيء، والذين مازلوا أحياء ربما يغادرونا في أقرب وقت بموت طبيعي، أو بفعل قصف روسي.
كم تبدو المعادلة مؤلمة ومضحكة في آن معًا، الضامن التركي يسعى لتثبيت الدعائم لحياة آمنة عبر وقف إطلاق النار في المناطق المحررة، والطائرات الروسية تقصف المدنيين الأبرياء، تقتل الحياة، تشرد العائلات، تزرع الرعب في البيوت والطرقات!!
أكثر من أربعين شهيدًا ارتقى، ومئات آلاف القلوب معلقة بأمل لا يخبو، أورم الكبرى حزينة للغاية تبكي حجارتها، لكنها غدًا تعود إلى الحياة، فإرادة الله خير للعبد في محياه، غدًا تبتسم الوجوه في أول أيام عيد الأضحى، ويتذكر الأحياء أقاربهم الشهداء، يزورونهم في المقابر ويحملون لهم الورد والأوراق الخضراء، كل شيء يبدو لنا أخضر مبهجًا وممتدًا، فالله معنا وأرواحنا وقلوبنا بين يديه.
لم يبقَ سوى حزن يكحل العيون يختفي مع ابتسامة الرضى، وعودة تفاصيل الحياة ما بين عمارة البيوت، وزيارة القبور، وإحياء حفلات الأفراح التي نستعد لها مع اقتراب عيد الأضحى، فالبارحة كان عرس صديقي أسامة في إدلب، وقبل يومين كان عرس صديقي أحمد في المجزرة، عرسان حقيقيان كل واحد منهما في مكان.
أحمد الشاب الإعلامي الذي عاش قسوة الحصار في حلب الشرقية، لم يترك الكاميرا من يده، وهو ما زال يوثق بها قتل الأبرياء وتدمير بيوتهم فوق رؤوسهم.
كاميرا أحمد مليئة بصور تحرق القلب، وعيناه في الجنة الآن ترى صورًا تمحو كل الآلام، وترسم على وجهه ووجوهنا فرحًا ينسينا أعمق الأحزان..